IMLebanon

الأولوية للإيرادات لا للإنقاذ: موازنة «الانهيار المتواصل»

 

الرسالة التي يمكن تلقّفها من مشروع موازنة 2024 والنقاشات التي تدور حولها في مجلس الوزراء، هو أن كل الإشكاليات الأساسية ستبقى على حالها لفترة غير معلومة الأجل، وستطغى عليها أولوية زيادة إيرادات الخزينة من خلال زيادة الرسوم والضرائب. لذا، لن يكون هناك أي تعديل في السياسات الضريبية المتّبعة منذ عقود، حتى لو أن هناك ضرورات تفرض تعديلات كهذه مثل الانكماش الاقتصادي الهائل والتضخّم المتواصل. بذلك، يعكس مشروع موازنة 2024، عجز السلطة عن القيام بأي خطوة نحو الأمام وسط تضارب في اتجاهات ومسارات السلطتين النقدية والمالية.

 

بلغت قيمة الإيرادات الضريبية في مشروع موازنة 2024 نحو 208065 مليار ليرة مقارنة مع 112767 مليار ليرة في مشروع موازنة 2023، أي بزيادة قيمتها 95298 مليار ليرة. وبالتوازي بلغت قيمة الإيرادات غير الضريبية (حاصلات إدارات ومؤسسات عامة/ أملاك الدولة، الرسوم والعائدات الإدارية والمبيعات، غرامات ومصادرات، وإيرادات مختلفة) 50719 مليار ليرة في موازنة 2024 مقارنة مع 34971 مليار ليرة في موازنة 2023. في المجمل بلغت قيمة الزيادة في الإيرادات بين المشروعين نحو 111045 مليار ليرة. وتبيّن أن نحو نصف هذه الزيادة مصدرها الزيادة على الرسوم الداخلية، و20% منها مصدرها الزيادة على ضريبة الأملاك المبنية، و13.7% مصدرها الزيادة اللاحقة بضرائب الداخل.

 

عملياً، كل هذه الزيادات هي نتيجة تعديلات في قيم الرسوم والضرائب فضلاً عن استحداث ضرائب جديدة. في المقابل، لا يظهر التصنيف الوظيفي للموازنة أي زيادات فعلية على مستوى الأجور وملحقاتها ومعاشات التقاعد والتعويضات والتقديمات الأخرى التي تمنح لموظفي القطاع العام، بل تبيّن أن الزيادة الوحيدة الكبيرة التي لحقت بهؤلاء هي تلك المتعلقة بالتقديمات المدرسية التي زادت من 1408 مليارات ليرة إلى 14112 مليار ليرة، بينما بند الأجور وملحقاتها انخفض من 30486 مليار ليرة إلى 29630 مليار ليرة.

 

من دون تأمين عودة القطاع العام إلى العمل تصبح إيرادات الموازنة عبارة عن فرضيات

 

 

هكذا، لا يظهر وجود للأزمة في مشروع موازنة 2024 وفي المشاريع السابقة، إلا في جانب الإيرادات حيث تتركّز الأولوية على إدارة التدفقات من جيوب الأفراد والمؤسسات إلى الخزينة العامة من دون ضمان إعادة توزيع هذه الموارد وفق رؤية للتعافي والنهوض. فالتركيز على الإيرادات يُعطى الأولوية دائماً بينما الآن نحن في مرحلة أزمة انكماش اقتصادي وتضخم وانهيار في سعر العملة ودولرة نقدية للأسواق. «بهذا المعنى، مشروع موازنة 2024 لا يلبي الحدّ الأدنى، إذ إنه ليس معدّاً للإنقاذ بل هو موازنة أمر واقع تعكس غياب أي سياسة إنقاذية عامة» يقول رئيس المركزي الاستشاري للدراسات عبد الحليم فضل الله.

الزيادات الكبيرة في الإيرادات الناتجة من الرسوم والضرائب لا تضمن إنهاء تعطيل القطاع العام «فمن دون تأمين عودة القطاع العام إلى العمل، تصبح أرقام الإيرادات في مشروع الموازنة كأنها فرضيات لا يمكن ضمان تحقيقها» وفق فضل الله. فإذا كانت هناك أولوية يجب أن تكون لتمويل رواتب القطاع العام «من أجل ضمان تسيير العمل في مختلف إدارات الدولة، سواء الإدارة الضريبية أو الإدارات الخدماتية».

 

 

ربط الموازنة بالإنقاذ، يتطلب العمل على محورين برأي فضل الله؛ الأول هو محور إجراءات إدارة الأزمة التي يفترض أن تصبّ في مسار الإنقاذ والتعافي، والثاني هو محور الإجراءات التي تتطلب وقتاً زمنياً أطول والتي تكون ضمن المسار نفسه. وضع الموازنة ضمن هذا المسار يتطلب العمل على خفض الخسائر وإيجاد معالجات جوهرية لمسائل لم تقارب بعد. فإلى جانب تمويل القطاع العام من أجل إعادة تشغيله، يفترض النظر إلى القطاعات الحيوية والأساسية. فرغم الزيادة الملحوظة، وإن كانت غير كافية، على الصحة بقيمة 23900 مليار ليرة مقارنة مع 7572 مليار ليرة في 2023، إلا أن التعليم، وخصوصاً التعليم العام المهدّد بشكل كبير، كانت حصّته من الزيادة متواضعة ولم تتجاوز 2089 مليار ليرة أو 1.7% من مجمل الزيادة في النفقات التي بلغت 118596 مليار ليرة أو ما يعادل 1.3 مليار دولار وفق سعر صرف يساوي 89000 ليرة لكل دولار. هناك أيضاً أولوية ثالثة هي الطاقة واستدامة التغذية بالتيار الكهربائي.

 

هذه المسائل جرى التعامل معها بطريقة سطحية على حساب طروحات أخرى متصلة أكثر بالإيرادات والضرائب. فقد جرى التركيز على ضرورة وجود رصيد للخزينة بالعملات الأجنبية. «في الحالات العادية هذا الأمر ليس صحيحاً إذ يترتب على السياسة النقدية أن توفّر العملات الأجنبية اللازمة للخزينة، إنما اليوم في ظل ما يحصل، هناك انفصال بين السياسة النقدية والسياسة المالية تنعكس مباشرة على الأولويات. ليس هناك اتفاق على تحويل الأموال التي تجبيها الخزينة بالليرة الفريش إلى دولار فريش قابل للتحويل إلى الخارج لأن أولوية السلطة النقدية تكمن في الحفاظ على استقرار سعر الصرف، بينما أولوية السلطة المالية متصلة أكثر بتمويل الحاجات. هكذا أصبح تركيز الموازنة ينصبّ على تأمين الدولارات من خلال الضرائب». المشكلة هنا لا تتعلق فقط بالاتفاق على الأولويات، إنما هي أصلاً تكمن في إشكالية لم يجب عليها أحد منذ نحو أربع سنوات وهي: «كيف يمكن تأمين موارد كافية للحكومة لتأمين الحاجات الأساسية؟ ينبغي الردّ على هذه الإشكالية بمعزل عما إذا كانت هي المقاربة الأمثل أم لا» يقول فضل الله.

ضياع السلطة في البحث عن أجوبة للمسائل الآنية، لا يفترض أن يعفيها من النظر إلى الأزمة بشكل أشمل من خلال الموازنة. فعلى سبيل المثال «طُرح أيام الوزير غازي وزني موضوع ضريبة على الثروة لمرّة واحدة. هذه مسألة يمكن النظر فيها بجديّة. كذلك، يجب أن يكون لدينا مقاربة حول مسألة تحويل الأموال إلى الخارج (المهرّبة) بمعزل عن المسؤولية القانونية التي تترتب على عملية التحويل. المقصود هو أنه يجب أن نستفيد من الموازنة في مجال خفض الخسائر وتقديم مقاربات جوهرية بدايتها في الموازنة لمسائل لم تعالج بعد». وعلى هذا المنوال، لا يجب التعامل مع الأجور بالطريقة الحالية التي يبدو فيها انخفاض القوّة الشرائية كأنه إنجاز يفترض استكماله. ففي ظل الأزمة يجب تعزيز الأجور في إطار مقاربة شاملة لا يقتصر النظر فيها إلى الإيرادات بالعقل المحاسبي التقليدي الذي لا يبدو أن السلطة تعرف غيره حتى الآن. فالهدف من السياسات الضريبية لا يتعلق بجمع الإيرادات وزيادتها، إنما يرتبط مباشرة بإعادة توزيع الثروة في إطار رؤية تنموية، وهذا ما لا تراه قوى السلطة.