في العسكر 29% وفي الإدارات 27% و “مش شاطرين إلا على بعض”
قرر صاحب مهنة حرة أن يتطوّع منذ سنوات عدة لمساعدة قريب بعيد له ليس لديه من الأهل إلّا شقيقة تقدّمت في العمر، وكان يعاني مرضاً عضالاً يحتاج إلى عملية جراحية عاجلة، فقرّر الرأي على أن تتم على حساب وزارة الصحة في أحد مستشفيات ساحل المتن الشمالي، شدّ الهمة وقصد الوزارة لإتمام بعض المعاملات، ولمّا وصل لدى الطبيب المعني، بعدما أرشدته موظفة عند المدخل إليه، ارتاح المتطوّع لأن الطبيب مسيحي، ويفترض أن يساعده ويتفهّم وضع المريض ووضعه كشخص أحبّ مساعدته، لكن الطبيب طرح له أكثر من سبب لعدم تسهيل المعاملة، ولما لم يقتنع خرج من مكتب الطبيب منفعلاً، فلاحظته الموظفة عند المدخل وسألته مبتسمة عن السبب وكأنها تعرفه، فأجابها بما حصل معه. فقالت له انتظر نحو ربع ساعة وسيأتي طبيب آخر محله وسيسهّل لك الأمور بالتأكيد.
وهكذا صار، إذ عرّف الطبيب البديل بنفسه وشرح له وضع المريض قريبه، فأبدى الطبيب كلّ تفهّم ووقّع له الأوراق، وتبيّن أن هذا الطبيب شيعي. فشكره وخرج مستغرباً، كيف أن المسيحي في الدولة يتمسّك بحرفية القانون، بينما آخر من غير طائفته خدمه من دون أي تمنين، وراح يخبر ما حصل معه ليكتشف أنها ليست حالة استثنائية، بل إن بعض المسيحيين في الدولة والإدارة العامة “مش شاطرين إلّا على بعضن”، كما في السياسة أحياناً كثيرة.
قد يكون هذا المثل نافراً، وقد يقول البعض إنه ليس في محله، ولكن عندما تظهر حقيقة ملف الدوائر العقارية في جبل لبنان وتداعياته المستمرّة حتى الآن، يتأكد المراقب من أن هذا المثل الحقيقي يعكس واقعاً معيناً مؤسفاً، على قاعدة أن المسيحيين هم “كجحا اللي ما فيه إلا عخالتو”، على الرغم من تراجع أعدادهم في الإدارات الرسمية والمؤسسات بشكل دراماتيكي وصولاً إلى طرح التساؤلات حول معنى التوظيف بما يتوافق مع مقتضيات العيش المشترك كما هو وارد في الدستور للوظائف من الفئة الثانية وما دون.
وقد فاقم الخلل إصرار الثنائي الشيعي على التعاطي مع التوظيف كوجه من وجوه المحسوبية وخدمة الأنصار لأهداف سياسية وانتخابية، وأحياناً بما يخالف القانون ومن دون اعتبار للحدّ الأدنى من التوازن.
فبحجّة ضبط الفساد، أطلق بعض القضاء المعني في جبل لبنان حملة يمكن وصفها بالعشوائية على الدوائر العقارية في المحافظة “أخذت الصالح بعزا الطالح”، وشلّت هذه الدوائر في جبل لبنان حصراً، حيث الأغلبية الساحقة من الموظفين والمكلّفين مسيحية، فلوحق من لوحق وأُذلّ من أذلّ ثم أُطلق من أُطلق، وأحياناً وفق معايير استنسابية وبناء على مداخلات من هنا وهناك، بينما رفض موظفون معروفون باستقامتهم التعرّض للتوقيف، فامتنع بعضهم عن المثول أمام القضاء وتالياً ما زال وضعهم معلّقاً، فيما فضَل بعض آخر الاستقالة.
والنتيجة أنّ الدوائر العقارية في جبل لبنان تعطلت فترة طويلة وما زالت معطّلة بنسبة أو بأخرى، وتالياً تعطّلت مصالح المواطنين وتراجعت واردات الخزينة، والأهم أنها خسرت عدداً لا بأس به من الموظفين المسيحيين الأكفّاء، بسبب معاندة قاضية وبعض معاونيها ومن دون وجه حق، فيما تضجّ الكواليس بأخبار صفقات وتهريبات في ظل الإقفال، واستغلال تيار سياسي هذا الواقع عبر التهويل الناعم والابتزاز لبعض الموظفين الكبار بهدف تمرير بعض المعاملات بعيداً من الأضواء وبحجة تصريف أعمال داخلية.
وما يضاعف الأسف والأسى هو الواقع المزري للوجود المسيحي على الصعيد الوظيفي في الدولة. ويقول رئيس مؤسسة لابورا الأب طوني خضرا إن المعدل العام لهذا الوجود هو نحو 29%، فيما يبلغ عدد العاملين في الأسلاك العسكرية مجتمعة نحو 125 ألفاً، نسبة المسلمين بينهم 68% والمسيحيين 32%، علماً أن العدد على مستوى الجيش هو أدنى من هذه النسبة، بينما هو أعلى منها في القوى الأمنية الأخرى. وبالنسبة إلى الموظفين المدنيين بمختلف مواصفاتهم، فهم نحو 214 ألف موظف بينهم 73% مسلمون و27% مسيحيون.
ويلفت إلى جهود حثيثة لضمّ أكبر عدد ممكن من المسيحيين إلى المؤسسة العسكرية، من أصل سبعة آلاف مطلوبين للتطوّع، مشدّداً على أهمية المشاركة المسيحية في إدارات الدولة لا سيّما من قبل الشباب، بما يؤمّن مقتضيات العيش المشترك ويكسر عزلة أو انعزال فئة عن سواها.