IMLebanon

الاقتراع الإلزامي والطريق إلى بناء الثقة بالدولة

بين المهام العديدة أمام العهد الجديد في لبنان والتعهدات التي قطعها أقطابه، احتل موضوع الانتخابات المقبلة أولوية ملحوظة لدى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري. عون وعد في خطاب القسم بإقرار قانون انتخاب جديد يؤمن عدالة التمثيل قبل الانتخابات المقبلة. والحريري تعهد، بالعمل على إقرار قانون جديد للانتخابات. إن التشديد على أولوية قانون الانتخاب لا ينبع من حاجة لبنان الماسة الى إحياء العملية الانتخابية بكل أبعادها ونتائجها فحسب، وإنما يعود أيضاً الى دقة موضوع الانتخابات ومسألة السلطة وترسيخ القواعد التي بني عليها التحالف الواسع الذي فتح الباب أمام انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة.

لقد وعد الحريري بوضع قانون جديد يؤمن صحة التمثيل لشتى فئات الشعب وأجياله في صيغة عصرية وإصلاحية. وحبذا لو جاء القانون الموعود يعكس فعلاً هذه الآمال. بيد أن الجدل القائم حول قانون الانتخاب يوحي أحياناً بأن الغاية المنشودة منه هي إقرار تمديد «واقعي وشرعي» للمجلس الحالي، بعد أن كاد لبنان – قبل انتخاب الرئيس- ينتقل من «شرعية البرلمان الى شرعية الميدان»، وبعد أن دعت الهيئات الاقتصادية والعمالية معاً الى سلسلة من الاعتصامات وحركات الاحتجاج. ومثل هذا التمديد لا يخدم أحداً ولا يكفي لإضفاء الصدقية على الوضع السياسي الراهن. وهناك فوارق عديدة بين هذا النوع من الصدقية وبين صدقية مستمدة من قانون انتخابي جديد يسمح بتطوير الحياة البرلمانية. فالانتخابات التي تعرف نتائجها سلفاً لا تعد انتخابات جدية. والانتخابات التي تخلو من عناصر المفاجأة تكون أقرب الى التعيين منها الى الاختيار الشعبي الحقيقي.

لقد عانى لبنان كثيراً لتمسكه بنظامه البرلماني، وتعرض اللبنانيون لمتاعب كبرى لأنهم طالبوا بالديموقراطية وتمسكوا بها. فبينما كانت غالبية دول الجنوب والعالم الثالث تجنح نحو الحكم المطلق والحكم الفردي، أصر اللبنانيون على الاحتفاظ بنظام الحكم الديموقراطي وحاولوا توسيع نطاقه. إلا أن هذه المحاولات كانت تصطدم بقانون انتخابات متخلف ولا يساهم في دمقرطة الحياة السياسية في لبنان.

من الأدلة المهمة على تخلف قانون الانتخاب أن نسبة المشاركة في الاقتراع في الانتخابات النيابية خلال المرحلة الممتدة بين 1945 و2001 لم تتجاوز 40 في المئة من مجموع الناخبين في لبنان، وهذه نسبة متدنية حتى بالمقارنة بدول حديثة العهد بالديموقراطية وبالتعددية السياسية. وينبغي الأخذ بعين الاعتبار هنا أن الحق في الاقتراع لم يشمل الشبان والشابات الذين تتجاوز أعمارهم 21 سنة، ولا شمل المرأة اللبنانية قبل عام 1953. لقد عولجت بعض الثغرات التي كانت تؤدي الى تدني المشاركة في الاقتراع في لبنان، ولكن الحل الأفضل لمعالجة هذه المسألة يكمن في جعل الاقتراع إلزامياً في لبنان.

إن تطبيق الاقتراع الإلزامي لا يصحح قانون الانتخاب فحسب، ولكن له نتائج بعيدة المدى أيضاً كما لاحظ آرندت ليبهارت. ففي رأيه إن انخفاض نسبة المشاركة في الاقتراع يتقاطع مع تدني مستوى العلم والمعرفة، والدخل والمكانة الاجتماعية. استطراداً توصل ليبهارت الى أن تدني نسبة المشاركة ينتشر بصورة أوسع في أوساط الأقليات الاثنية والدينية واللغوية وهو يعمل بالتالي لغير مصلحتها. وتوصل ليبهارت أيضاً بنتيجة هذه الملاحظات الى أن الاقتراع الإلزامي هو أقرب الى تحقيق مطالب هذه الجماعات، وانه بالتالي أقرب الى تطبيق فكرة المساواة بين الأفراد وبين الجماعات والفئات المتنوعة في المجتمعات التعددية مثل لبنان.

ولفتت الأكاديمية البرازيلية البارزة ماريا دالفا كينزو النظر الى أن منافع الاقتراع الإلزامي انتشرت في جميع الدول والبلدان التي تأثرت بالعولمة. فالتطورات الكبرى التي جاءت بها العولمة أجبرت الكثيرين من المزارعين والفلاحين على مغادرة أراضيهم، وسكان مناطق كثيرة في المدن على النزوح عن هذه المناطق وأجبرت الفريقين، وأغلبهم من الفقراء والمعوزين، على التخلي عن موارد رزقهم بحيث تفككت صلاتهم المجتمعية وباتوا عاجزين عن الدفاع عن مصالحهم مما زادهم فقراً وعوزاً. بالمقارنة بهؤلاء، وجدت كينزو أن هناك فرقاً ملحوظاً بين أولئك الذين تعرضوا لهذا المصير في دولة تطبق الاقتراع الإلزامي، وبين أقرانهم في دولة لا تطبق هذا النمط من الاقتراع. ففي الحالة الأولى أمكن الجماعات المهمشة أن تستخدم المشاركة في الانتخابات كوسيلة ضغط على الأحزاب وعلى القيادات المتنافسة كي تحمي مصالحها وترفع الحيف عن كاهلها، بينما لم تتمكن الجماعات المهمشة في الدول التي لا تطبق الاقتراع الإلزامي من اتباع النهج ذاته.

إن الاقتراع الإلزامي لا يساعد على تمكين الفئات المهشمة ولا على تحقيق المساواة بين المواطنين فحسب، وانما يساهم أيضاً في توسيع المشاركة العامة في الحياة الديموقراطية. هذا ما يلاحظه غالين اروين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة لايدن، إذ يجد أن تطبيق الاقتراع الإلزامي لدورة أو أكثر في بلد من بلدان الديموقراطية الناشئة يؤدي الى تنمية الثقافة الديموقراطية والذاكرة الانتخابية لدى الجماعات البشرية والأفراد. وتؤيد دراسات وضعتها مؤسسة «ايديا» IDEA العالمية هذه النظرة حيث تلاحظ هذه الدراسات أن الاقتراع الإلزامي لا يعود إلزامياً إذ إنه مع التكرار يتحول الى عادة لا يتخلى عنها الفرد بسهولة. ولتأكيد صواب هذه النظرة، تعود «ايديا» الى تجارب عدة دول طبقت الاقتراع الإلزامي ثم ما لبثت أن تخلت عنه من دون أن تتراجع نسبة المساهمة في الاقتراع تراجعاً كبيراً.

إن لبنان في حاجة ملحة الى تطبيق الاقتراع الإلزامي. فكما أن المساهمة في الاقتراع تفضي، كما قلنا أعلاه، الى تحول الاقتراع الى عادة تطبع سلوك المواطن، فإن الامتناع عن المساهمة في الاقتراع يتحول هو الآخر الى عادة مستوطنة ليس من السهل التخلي عنها إلا إذا مورس على المواطن شيء من الضغط المعنوي والأخلاقي الذي يمثله القانون من أجل ممارسة حقه في الاقتراع. ثم إن تطبيق الاقتراع الإلزامي يساعد على التخفيف من حدة التوترات التي تطبع العلاقة بين بعض الطوائف والفئات اللبنانية.

ومما يشجع على المطالبة بتطبيق الاقتراع الإلزامي هو أن الكثيرين من الذين يمتنعون عن الذهاب الى صناديق الاقتراع في لبنان لا يفعلون ذلك لوجود أسباب حقيقية وملحة تجعلهم غير قادرين أو غير راغبين في ممارسة الاقتراع، بل بسبب التقاعس غير المبرر، أو حيث انهم يشعرون بأن أصواتهم لن تغير النتائج المرسومة سلفاً. وحري بالدولة وبالقوانين التي تصدرها أن تغير نظرة هؤلاء الى مسألة المساهمة في الاقتراع والى غيرها من الأعمال والنشاطات التي تتطلب مساهمة المواطنين فيها. إن الاقتراع الإلزامي لا يكفي لحمل هؤلاء على التخلي عن شكوكهم، ولكنه يوفر الإطار القانوني المناسب للعمل على ترسيخ الديموقراطية وممارساتها في نفوس المواطنين. ومثل هذا الإطار يساعد كثيراً على بناء الثقة التي يطلبها المسؤولون.