IMLebanon

مجانين الحكم

– 1 –

لا صوت يعلو على صوت الخبل.

هذا ما يمكن ان تنتهي به مرحلة «الجنون بالحكم» التي ورثت فيها مجموعات محلية/وطنية إدارة هذه البلاد من الاستعمار وسارت بها النسخ والأجيال التالية إلى لحظة الدمار التي نعيشها واقعياً.

تنتشر مثلاً في مصر خزعبلات تتفوق على معركة هرمجدون وبرتوكولات حكماء صهيون والمحفل الماسوني الذي يدمر العالم… تتفوق عليها في الحبكة الخيالية إلى درجة ترويج روايات عن التحكم في المناخ العالمي وإيقاظ البراكين واللعب في القشرة الأرضية ورشّ الكمتريل لتغيير درجات الحرارة والرطوبة.

التفوق أيضاً في مستوى دعاة هذا النوع من الخبل، فلم يعودوا من مهووسي الخزعبلات ولا عشاق الخرافة ولا مشعوذين سريين، لكنهم الآن اصبحوا سياسيين ومن الطبقات الحاكمة ونجوم الميديا الذين يكتسبون شعبية عند جمهور كبير عاجز عن فهم ما يحدث، وتسعفه الخرافة.. وهم يدعمون حكماً لم يعد لديه شيء سوى الخبل أيدلوجية يبحثون بها عن «العدو في الداخل» الذي يلعب دور مندوب مؤامرة كوكبية تدار من غرفة مظلمة في «مجلس ادارة العالم».

انتشرت الخرافة في القاهرة مثلا عبر برامج متلفزة ضيوفها من خبراء سابقين أداروا مراكز إستراتيجية (أي أنها بيوت التفكير) في مؤسسات من المفروض أنها تقوم على العلم مثل الجيش المصري.

ومع أننا شاهدنا كل الأفلام التي تحدث الآن من قبل (إرهاب/ حرب أهلية/ استعمار يتحالف مع قوى محلية/ طغاة يحملون وكالات من القوى العالمية/وعصابات تتوالد من المجموعات ذاتها التي كان حلمها الوطني النجاح بعد الاستعمار..).

.. لكن النهايات ستختلف بالتأكيد مع اتخاذ الخبل شرعية الاستمرار او الاستقرار فتنتصر مقولة «أنا أو الفوضى»، ويلمع سؤال «هل لديكم بديل؟» كلما لاح النزوع إلى حكم الفرد الواحد.

وهكذا يتحول الخطاب السياسي للدول إلى هذيان، يوازي هذيانات التحالفات من العراق إلى طرابلس، ومن اليمن إلى دمشق. كل الأطراف التي تتصور انها فاعلة لا تقدر على الحسم.

لا السعودية وتحالفها انتصر في اليمن برغم القوة الجبارة، ولا إيران وروسيا تستطيعان إنقاذ الأسد بدون السيسي، ولا تركيا يمكنها التمدد على حساب الأزمة السورية، ولا أميركا بكل الاوراق التي في أيديها يمكنها نسج أو غزل حلفها المصون.

أي أن الأفلام التي رأيناها من قبل لن تنتهي نهايات تقليدية، وستندفع هذه المنطقة إلى تاريخ جديد، ليس فقط لأن هناك قوى إيجابية خرجت من مكامنها (في ثورات/ انتفاضات/ هوجات) ولكن لأن هذا الخروج تعبير عن «انهيار» القدرة عند «السلطة» وانفراط عقد التواطؤ الذي أبرمته مع شعوبها: أتركوا لنا الحكم واستمتعوا بالاختباء في الفقاعات وانتظروا «الجنة» بعد الموت.

– 2 –

الفيلم القديم: مجانين حكم، وشعوب تتواطأ معها، وتحول الحداثة والدولة إلى «سلع» تستهلكها معزولة عن قيمها وأفكارها. وهذا ما يجعل مؤسسات الدولة، او الديموقراطية او المواطنة او «حكم الشعب» كلها شكليات تسقط إذا تعارضت مع جنون الحكم… هذا هو الذي يؤسس الدول في المنطقة من السعودية المملكة التي قامت بحلم فرد وعائلة وحتى العراق الذي تكون وفق صيغة سايكس بيكو ثم سارت عروبية مع البعث، ومع موضة الثمانينيات وضع عليها صدام «التاتش» الإسلامي ووصل بها إلى طائفية سنية قبل أن تنفجر به بعد غزو الكويت.

وهذا ما يبرر مثلا استهانة السيسي بالدستور (الذي اتى به وأقسم على حمايته) ويصفه بأنه كُتب «بالنيات الحسنة» ولا بد من تغييره لأنه يعطل «ماكينة الحكم..» كما أن أنصار بشار الأسد يرونه بطلاً في حرب لم تعد موجودة ضد «قوى امبريالية».

الدول التصقت بحكمها ليس على مستوى الدعاية فقط، ولكن في جنون يكاد يقترب مما كتبه المفكر الفرنسي ادغار موران في كراسته: «إلى أين يسير العالم؟»(والتي ترجمتها إلى العربية وللمفارقة الملحقية الثقافية السعودية في فرنسا).

موران كان يرسم صورة لنمط الدول التي تتحول إلى «وحوش مصابة بهذيان ذهاني… إذ إنها تعتبر بمثابة عدو مسبق كل قريب، وبمثابة متهم كل رعية من رعاياها…».

.. و»هي وحوش يواجه بعضها البعض مثل ديناصورات وزواحف مجنحة، في هيجان دموي مجنون أكثر فأكثر، وهي لا تعترف بأي قانون يتعالى على إرادتها الوحشية. والمعاهدات التي تبرمها هي دائماً عبارة عن أوراق مهملة تمزقها كل علاقة قوة جديدة، غير قادرة على الشعور بالحب وعديمة الوعي …».

.. وتأمل ما يحدث في الحرب على اليمن/ أو في القتل المخبول للأبرياء في مصر/ أو قمة الجنون الدموي في سوريا… ستجد جزءاً من هذا الوصف، وستجد أيضاً ان الشغل الشاغل ليس الدماء، بل الحكم… فالجنون بالحكم يدافع عن نفسه.

توقيف الدماء في اليمن وسوريا مثلا يأتي في المرتبة الثانية بعد مستقبل الحاكم، وهي مرتبة لا تتعدى حدود الحنان، والبكاء على المأساة وتمتد عند المهووسين إلى إدانة الضحية كما حدث في وصلات ردح ضد اللاجئين السوريين.

– 3 –

… وفي الدفاع عن جنون الحكم يفترق المتحالفون، فالذي جمع مصر لتشارك في تحالف تقوده السعودية دفاعاً عن حليفها في اليمن، يجعلها تقيم تحالفاً لدعم بشار الأسد في دمشق ضد رغبة الحليف السعودي، الذي يعطل لها مشروع «القوة العربية المشتركة» الغطاء السياسي للتدخل في ليبيا، وهذا هذيان لأنه لا يقوم على واحدة من الرايات القديمة (عروبة/ أمة إسلامية/ قوة إقليمية) ولا حتى على «السيادة او الحكم بمعناه الكلاسيكي.. ولكنه جنون الحكم الذي استثارته «يقظة» الناس ومطالبتهم بأن يكونوا شركاء في مستقبل «الدولة».

هستيريا استعادة الصفقة القديمة (لنا الحكم.. ولكم النوم)، تعاند التاريخ، وتحاول تأبيد الحاضر، ولو ادى ذلك إلى الجحيم.

نحن الآن في استراحة دموية، لن يبقى فيها شيء على حاله، ولا هروب من الدماء إلا بوصل الماضي مع المستقبل، والرهان على استعادة قوة مجتمع في مواجهة جنون الحكم.

من دون ذلك سنبقى في حالة انتظار لا نهائية… نعيش فيها رهائن مجانين الحكم الذين يحركون مخابيل يحملون اسلحة وتراخيص للقتل… وفي الليل نستلقي على مقاعدنا، مستسلمين لعملية «الوش» المركزي عبر الشاشات للتشويش على ما تبقى من عقولنا وحواسنا…