IMLebanon

ديموقراطية الفساد

لم يعد الفساد «فضيحة» تُدوّي وتهز بقدر ما صار مع الزمن، منذ يومياتنا، وساعاتنا، نتنفسه ونتجرعه ونفكره ونحسه، بشكل أقل من عادي، بل كأنه صار «ضرورة» و»حاجة» وشرطاً، نفتقده إذا غاب ونحنُّ إليه إذا بدا مبتعداً ونتوق إلى حضوره بيننا. بل كأن الحضور صار جزءاً من ثقافتنا وطريقة حياة وتفكر واحساس واغتذاء وتنفّس، ورؤية ومواكبة، يكاد لا يخلو منه زمان ولا مكان. من الهواء الذي نستنشقه، إلى الماء الذي نشربه، إلى الأصوات التي نسمعها (ونشنف بها آذاننا)، إلى المأكل، إلى الدواء، إلى اللحوم، إلى المعلبات، إلى الخضار، إلى الحبوب، أف! حتى لتعجب كيف نعيش مع كل هذه الأنواع والأشكال منه.

تنظر حولك، فالفساد. تفكر فالفساد، كأنه صار أداة بل أدوات التفكير. تمشي، فالفساد كأنه بات من وقع خطانا. تنام، وكأنه صار من نعاسنا ونومنا وأحلامنا وكوابيسنا. من الدواء، إلى المأكل، إلى المشرب، وصولاً إلى السياسة، والثقافة والعقل ذاته والدماغ في خلاياه، والكلام في أنماطه والعمل في أدواته. من فوق، أي اهل السياسة: الفساد. ومن تحت: التجار والأحزاب والنفايات والقضايا الصغيرة والقضايا الكبيرة. مسألة معالجة المصائر فساد: الميليشيات على امتداد نصف قرن وحتى اليوم فساد. الانتماء الوطني فساد. الإيمان بالبلد وبالجمهورية والحدود والديموقراطية والسيادة فساد بفساد. إذا دخلت متجراً فالفساد يفتح لك الباب. وإذا ترددت إلى مطعم فالفساد يقدم لك الطعام. وإذا انتظرت نواباَ فالفساد يسبقهم إليك. وإذا توجهت إلى دائرة حكومية فالفساد منقوش على الوجوه. 

وإذا قلبت صحيفة فالفساد يقفز من مانشيتاتها، وإذا فتحت تلفزيوناً فالفساد يحتل عينيك وأُذنيك. وإذا استنجدت بضمير فالفساد يمد يده إليك، وإذا نزعت إلى القضاء، فالفساد يحمل مطرقته. وإذا رفعت صوتاً يُسكتك الملوثون والتجار… وأهل المصانع والشركات!

[ الضمائر

فالضمائر السياسية والاجتماعية كأنها من عناصر الفساد. لا نقول مجرد ضمائر فاسدة، بقدر ما نقول «ضمائر» ينتجها الفساد وتنتجه: أيديولوجيا مصممة، متجذرة، ثابتة، أبدية، في العقول والعقائد الشتى من دينية إلى طائفية إلى مناطقية، لها برامجها السياسية والانمائية، وطرقها وقنواتها. في التفاصيل والعموميات والايقاعات والأرقام. أباتت هي ضمير «الجمهورية» القائل بالمساواة: (أي بالفساد)، أهي تجليات «الديموقراطية» التي على كل قادر ان يتمتع بحقوقها؟ أترى صار الفساد جزءاً من حقوق الانسان في لبنان. جزءاً من واجباته. طرفاً في نزاعاته.

[ الديموقراطية

أهو فساد الديموقراطية، أم ديموقراطية الفساد؟ بحيث صارت كل مواجهة له، خروجاً على القواعد وخيانة للمبادئ وتحدياً للقوانين، وتمرداً على الأعراف وانتهاكاً للتقاليد؟ عندما «دوّت» في وسائل الاعلام فضيحة تزوير الأدوية، قلنا، عال! فلتُدوِّ، فلعل من ارتكبها قد يلقى عقاباً وقد تنتهي ممارساته. لكن، عرفنا بعدها، اننا اقترفنا خطأ في التقدير. وفي الحكم. فمرتكبو هذه الجريمة الشنعاء لم يكونوا سوى «ضحايا». هكذا جعلوهم يبدون لنا مساكين. لأن من وراءهم لهم الحق في جعل الفاسد «شهيداً» وعليه أن يطالب، مقابل اتهامه، برد شرفه المصون، واعتباره. ثم غابت الفضيحة في غابات الفساد المترامية، المتشابكة، المعتمة. ثم طلعت علينا فضيحة اللحوم الفاسدة، هُرّبت من المرفأ، بوعي وطني عالٍ، وصحي فائق التصور. قلنا انها حياة الناس، وأمراضهم والتسمم وربما الموت. لكن وبدلاً من ان تدوي هذه الفضيحة خفتت. ثم اختفت. فاللحوم الفاسدة جاءت من تلقائها من أقاصي الأرض، قادت بنفسها البواخر، وافرغت نفسها في الأسواق، وفي الملاحم. لا متهم! لا فاعل. وبعضهم من صرخوا حاكموا «المجرم» فانتفض من يجب أن ينتفض من أهل هذا النظام، ومستبيحيه «انكم تضربون الاقتصاد اللبناني» و»تشوهون سمعة الجمهورية»! ثم ارتد الدوي على نفسه. لا شيء: «هناك مبالغة». جريمة بلا مجرمين ترتكب نفسها، وقتل مبين يرتكب نفسه. انه التجريد. تجريد المجرم من جرمه، والفاسد من فساده، او «تجهيله» والتجهيل «سيد الأحكام» وجذر «الضمائر» وجوهر اللعبة الديموقراطية واساس «التوافق» ومشتقاته على اخفاء المرتكبين. وعندما غصت الشاشات بانجاز «الكبتاغون» اف! انها جريمة بحق الشباب: هي المخدرات بمصانعها وابداعاتها تنتج عشرات عشرات ملايين الحبوب: والمصير ذاته كأن حبوب الكبتاغون ألواح شوكولا يجب ان توزع على الأطفال والشبان. مًنْ صنّع الكبتاغون؟ لا أحد. بل وتكاد تسأل وهل كانت هذه الفضيحة «حقيقية» وكأننا نجيب مع المجيبين «لا»! انها «صادرات» خيالية، من فبركة الاعلام و»اعداء البلد»! فالمعادلات السياسية يجب ان تتجاوز كل ذلك حرصاً على سلامة البلد ودرءاً للفتن ومنعاً للحروب «الأهلية» وحتى الاثارة المذهبية أو تصدع «المجتمع». فلم لا يكون كل هذا الفساد من مداميك «الوحدة الوطنية» وشكلاً من أشكال «الاجماع» الوطني، بل وشرطاً من شروط المحافظة على «القيم اللبنانية» التي لا تهزها ريح ولا عاصفة! 

[ دونكيشوت

وعندما خاض الوزير ابو فاعور «مغامرة» كشف ملفات الفساد، الغذائي، قلنا انه «دونكيشوت» الحكومة، والبرلمان والقضاء … والقوانين. لكن اكتشفنا ان أبو فاعور يحمل «أحلام» دونكيشوت لكن يتنكب مسؤولية الوزير. بدأ المشوار «الجهنمي» وراحت مغاليق الخزائن والمستودعات والمصانع تنفتح: انه الهول/ صحيح اننا كنّا نقدر ماهيات الفساد وأحجامه وخطره، لكن فاجأنا هذه المرة «بأسطوريته» وبجنونه وعموميته وأمكنته «المصونة»: من المطاعم الفاخرة بقذاراتها واهمالها واستهتارها بصحة الناس، إلى مصانع الأجبان والألبان، فإلى اهراءات الحبوب في المرفأ بجرذانها وفئرانها وصراصيرها وأوساخها وصلاحياتها المنتهية، وبراز الطيور والعصافير والذباب! انه «معجننا» نعجن فيه ما لا نعرف. ثم اهراءات الدقيق: الخبز اليومي (المقدس) فإذا به اللعنة القاتلة المدججة بالأمراض. اتأكل خبزاً أم جرذاً. منقوشة زعتر أم فأراً «مكدوساً» ام رتلاً من النمال «المعلبة»؟ مرعب؟ لا! فهناك من دفعهم واجبهم الاقتصادي والوطني والسياحي والانمائي ان يرفعوا أصواتهم (وهي مجبولة أيضاَ بالرغيف الفاسد) معترضين: فكأن ما يفعله ابو فاعور «مؤامرة على الجمهورية، والاقتصاد والشعب ومصالحه ومستقبله ووحدته الوطنية. كيف يسمح أبو فاعور للاعلام والصحافة ان تنشر علناَ ما تنشر من فضائح! لا! وألف لا! واندلع «اشتباك» كلامي سجالي بين وزير الصحة أبو فاعور ووزير الاقتصاد آلان حكيم! «ماذا سيقول العالم عنا؟« منْ سيأتي ليمارس السياحة عندنا؟ «بل ماذا سيقول اللبنانيون؟» والقاعدة الدارجة «إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا»: انه سر الجمهورية الذي يجب الا ينزاح لتنكشف بوطنيتها وحقائقها. بل كادت تصير المسألة وطنية! فالأخلاقيون من التجار وبعض المسؤولين والأطراف السياسية، هالهم ان ينحو ابو فاعور هذا المنحى «اللاأخلاقي واللاوطني» تأملوا انه كشف الفساد صار عملاً تقسيمياً وجدالياً، ولم لا فكرياً وثقافياً! بل اعتبر بعضهم من ذوي التربية السياسية والخلقية السامية ان ما «يرتكبه» ابو فاعور هو اما مجرد استعراض حزبي ، أو محاولة لتخريب الحوار، أو تخريب الملفات الحكومية وبنود المشاريع والقضايا! ويمضي إلى مطار رفيق الحريري ذي الواجهات النظيفة اللماعة، والعاملين فيه باناقتهم ولطفهم، ليجد خلف هذه الواجهات ما لا ينتظره ما يفوق التصور: المستودعات «تستودع» بضائع مضى على انتهاء صلاحياتها سنوات! نعم! سنوات! لا مجرد أيام ولا شهور. النتن والعفن يرشحان منها. الفئران والجرذان أسست جماهيريتها العظمى فهنيئاً لنا صار عندنا أيضاً جماهيريات الجرذان العظمى. المرفأ والمطار. بوابتا الجمهورية هما معبران لحفظ او تصدير وتكديس القذارة والأمراض. فيا لهاتين البوابتين الجمهوريتين اللتين ترحبان بالقادمين، وتودع الراحلين… وتقتل الباقين! بل كأنهما حدودان مفتوحتان لكل المجرمين والقتلة. (تماماً كما هي الحدود اللبنانية الشمالية: ولا فارق بينهما). الحدودان المستباحتان بلا رقيب. ولا جمارك. ولا أمن. فاللبنانيون بين المرفأ والمطار عندهم المصانع والمسالخ (تذبح العجول الميتة) وتوزع على زبائنها. والمحال والمطاعم (وهل ننسى الكسارات)! وهم ما بينها «أسرى» الموت اليومي، وفريسة الأمراض. كأن كل مرفأ أو مصنع أو مسلخ جمهورية مستقلة، لها حدودها المصونة. وناسها الأفاضل، وحرسها الوطني المتفاني! لكن ماذا لو انتقلنا من الأمن الغذائي (ويسمونه أمناً غذائياً) والفساد الغذائي إلى ملفات الجامعة اللبنانية التي كانت احدى المنارات المشعة قبل حرب البرابرة على البلد، فما نجد سوى فساد من طبيعة تعليمية، تربوية، وثقافية. هذا الملف ليس أقل خطراً مما نشهد من فضائح: الجامعة اللبنانية في كل فروعها، (وبعض الجامعات الخاصة) جمهورية أو مجموعة سوبر ماركت طائفية وميليشيوية ولكل فرع فيه حزبيوه، وكتابه ومعلموه ودكاترته وطلابه الذين من المفترض انهم يصنعون أو يساهمون في مجد لبنان التعليمي، وخزان لبنان الفكري وبنوك أدمغته اللامعة. هناك الفساد من مستوى «اعلى» من ضمن استراتيجيات الميليشيات السابقة والحالية. وكما تُصدّر مصانع الألبان بضاعة فاسدة، فالجامعة (التي تديرها المخوخ التقسيمية صانعة الحرب الأهلية) تصدر الجهل والتعصب والظلامية والطائفية. على كل استاذ ان يحاول ان يدخل اليها للتعليم ان يمر بزعيم هذه الطائفة او الحزب، ليوافق على كفاءاته «العلمية» أي على «عرقه» المذهبي. المواصفات المطلوبة ليست لا مستوى العلم ولا التمكن ولا الكفاءة بل «المذهبية»! خاصة وان معظم «رواد» هذه الأحزاب يتمتعون بالجهل والتعصب وذهنية المزرعة.

وماذا نقول عن الجامعات والكليات الطائفية التي يسمح لها بفتح أبوابها الجهنمية؟ تضع برامج بلا رقيب. ومحتوى تعليمياً مسموماً. وفوضى في البرامج وريبة في الأهداف. انها فساد «البنى» الفوقية الذي ينعكس على البنى الثقافية التحتية. لأنها جامعات مرتبطة بالكانتونات المذهبية أكثر من ارتباطها بالعلم، وسوق العمل وتطوير القطاعات الانتاجية، وما نسمي ذلك سوى امتداد لفساد الحروب، والذهنيات الغيتوية والايديولوجيات غير المدنية وغير العلمية، والمناقضة لتاريخ هذا البلد. بل كأنه نوع من الفساد الاقتلاعي أو الانعزالي يكمل ما فشلت قوى التقسيم على امتداد 40 عاماً من تحقيقه. انه الفساد الثقافي التعليمي التربوي النامي نماء الفساد الغذائي والاخلاقي والسياسي. ومن الجامعة اللبنانية (وبعض الجامعات الخاصة) الى السلاح، السلاح الحزبي المتحرر من كل قانون ودستور. سلاح الكانتون الأخير، الذي يعبر عن ان حمله جزء من فضيحة تمس الدولة والكيان والمصير والحرية والديموقراطية والجيش والشعب. وبهذا السلاح المتدفق من الخارج، ليتقرر مصير الحكومات والبرلمانات… وصولاً إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية! انه سلاح الترهيب، وتعطيل المؤسسات، وبهذا السلاح ومن وراءه وامامه، يعطل مجلس النواب ويطول الشغور في سدة الرئاسة الأولى. وهل هناك فساد اخطر من الفساد الوطني والسياسي والمذهبي. فساد الاستبداد والطغيان الذي به يقرر حزب الله ان يورط لبنان في الحرب السورية دعماً للطاغية. وهل من فساد انساني، افدح من مساعدة هذا النظام البعثي، نظام البراميل المتفجرة، والكيماوي والكلور والمذابح والتدمير والتهجير والفتنة المذهبية. انه الفساد المذهبي في انقى صوره، ونظن ان جزءاً من الفساد الغذائي وتصنيع الكبتاغون ووضع المرفأ والمطار مرتبط بهذا السلاح. تماماً كما ظاهرة مصادرة مشاعات الدولة في نواحي الضاحية والجنوب والبقاع. سرقة الارض أوليست من «قمم» الفساد؟ وهذا يرجعنا الى فساد الروح فساد الوطنية، والاخلاق، عند الذين خططوا ونفذوا قتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري وضللوا تحقيقات المحكمة وقتلوا وهددوا بعض الشهود حتى وصل بهم الأمر إلى اتهام الرئيس سعد الحريري بقتل والده، وأمين الجميل بقتل ابنه، وخلاف شخصي ادى إلى اغتيال جورج حاوي ومسألة «عاطفية» كانت وراء تصفية سمير قصير! فأي فساد أدهى؟ واذا كان «سُمح» من باب الخجل للوزير ابو فاعور باستكمال «مغامرته» على الرغم من تلك الأصوات الرادعة فكثير من ظواهر الفساد لفلفت وطويت لأنها تمس «الممنوع» والقديسين والعصابات الإجرامية المتداخلة في الأحزاب.

فهل ترى نحن مسموح لنا ان نمارس «ديموقراطية الفساد» لنظهر «فساد الديموقراطية»؟ فالفساد جزء اساسي من ازمات الديموقراطية اليوم، ليس عندنا فقط، وانما في مختلف بقاع العالم. تماماً كما كانت جزءاً من «ازمة» الدكتاتورية والليببرالية والاشتراكية والرأسمالية. لأن كل ظواهر الفساد السياسي والاعلامي والغذائي والتعليمي والتربوي والقضائي والاقتصادي والتجاري ناتج اولاً وأخيراً من «خراب» الديموقراطية التي تتوازن بفصلها بين السلطات والسياسية والسلاح. وحرية التعبير (وهل هناك أسوأ من صحافة تستغل الديموقراطية لتضربها والحرية لتُعدمها؟) انها اذاً مسألة الدولة القادرة على حماية الديموقراطية الهشة. ولهذا لم نعرف معنى الدولة في الأنظمة الدكتاتورية وها بعضهم اليوم يعمل عندنا على ضرب الديموقراطية لضرب الدولة. الديموقراطية تعني الدولة والعكس صحيح! ونظن ان ما يكمن وراء كل محاولات نشر الفساد وتغطيته وتبريره هو لاظهار ان الدولة الراهنة تحتاج الى تغيير لايجاد بديل «دكتاتوري» مذهبي لها. يصنعون «الفساد» ويبرئون الفاسدين… لتبقى الدولة حامية الجمهورية هي الفاسد الوحيد. او ليس هذا ما يدأب عليه بعض الأقلام الصحافية العريقة والطفيلية؟