IMLebanon

تهجير الشمال المسيحي منذ 1978: فاتورة مفتوحة حتى اليوم

 

 

صيف 1978، تعرّضت مناطق البترون والكورة وزغرتا وبشري لنكبة لم تعرفها من قبل، مع انتشار الجيش السوري فيها ومغادرة المئات من شباب تلك القرى إلى ما كان يعرف بالمنطقة الشرقية، وكانت مجموعات كبيرة من الشبان المسيحيين غادروا مدينة طرابلس وقراهم في مناطق عكار والمنيه والضنيه عند اندلاع الحرب سنة 1975.

 

لم يظهر يومها حجم تلك النكبة بعد سنواتٍ قليلة، لكنه أصبح ظاهرًا في سنواتنا هذه.

 

مَن تركوا قراهم وقتها؟

 

شباب تترواح أعمارهم ما بين 16 و 30 – 35 سنة غير متزوجين بأكثريتهم الساحقة.

سكنوا في مناطق جبيل وكسروان والمتن وبيروت الشرقية، وعاشوا بعيدًا من قراهم حتى انتهاء الحرب: أي لا أقلّ من 13 سنة.

بعضهم هاجروا خلال سنوات الحرب، والقسم الأكبر من الباقين عادوا ضيوفًا إلى قراهم: أي أن قلة ممن تهجروا يومها عادوا وسكنوا بصورة دائمة في قراهم الأصلية.

من تركوا بلداتهم الشمالية في سنّ الزواج وخلال إقامتهم في المنطقة الشرقية، تزوجوا هناك إجمالًا من المنطقة الشرقية أو من مناطق أخرى عرفت تهجيرًا مماثلًا (الجبل، شرق صيدا والبقاع) وقلة منهم تزوجوا من قراهم الأصلية أو من جوارها.

اشتروا بيوتًا في المنطقة الشرقية ودرس وكبر أولادهم حيث سكنوا: أي اقتُلعوا من بلداتهم.

بعد انتهاء الحرب، تردّد المهجّرون إلى بلداتهم الشمالية، لكنهم لا يملكون بيوتًا فيها ولا يستطيعون بناء منازل، فوضعهم الاقتصادي لا يسمح.

يزورون بيوتهم الوالدية في المناسبات، لكن كان من الصعب عليهم اقناع أولادهم بالمجيء معهم إلى بلداتهم الأصلية: لا رفاق لهم هناك. أمران يجعلان الإنسان يأتي إلى قريته: إذا كان الأهل على قيد الحياة أو يملك منزلًا فيها.

كبر الأولاد وتزوجوا وبات لمن تهجروا في السبعينات أحفاد، إذا كان إقناع الإبن صعبًا بالمجيء إلى بلدته الأصلية فمن المستحيل إقناع الحفيد.

اليوم هذا هو الواقع. من تهجروا من بلداتهم أصغرهم تجاوز 65 من عمره والقسم الأكبر 70 – 75 سنة ما زالوا متعلقين بقراهم ويزورونها دائمًا وإن لم يستطيعوا المبيت فيها.

 

الأولاد تقريبًا انتهت علاقتهم بقراهم، والأحفاد حتمًا سينقلون سجلات نفوسهم إذا استطاعوا.

تهجير هؤلاء الشبان وزواج معظمهم من صبايا حيث سكنوا، جعل قرى المناطق الشمالية تشهد نسبة “عنوسة” أعلى من المنطقة الشرقية.

من لم يتهجروا، وسعيًا وراء العلم والعمل، نزحوا عنها وتوجهوا إلى حيث يعيش أقاربهم المهجرين، ففرغت أيضًا البلدات الشمالية.

ومن أسباب النزوح أيضًا أن الجوّ السياسي العام الشمالي ما بعد السيطرة السورية (1978) الذي استمر حتى 2005 ما كان يعكس التوجه السياسي لقسم كبير من شباب القرى، والعشرات منهم تعرضوا لمضايقات وتوقيفات تعسفية ساهمت في مغادرتها.

وها نحن اليوم أمام بلدات شمالية شبه فارغة أو في طريقها إلى الخراب، لا يقيم فيها إلا العجائز والمتقاعدون ولا تزدهر نسبيًّا إلا في نهاية الأسبوع والعطل، ومن يسكنها بصورة دائمة من الشبان، أول اهتماماتهم النزوح.

بعد انتهاء الحرب تم إنشاء وزارة للمهجرين، وكان المطلوب منها الاهتمام بكل الذين تهجروا من بلداتهم على امتداد الوطن، ولكن تم حصر نشاطها إجمالًا بمناطق الجبل وبيروت، وكان للجنوب مجلسه.

دفعت الأموال للأصول والفروع والإخلاءات والمصالحات، لكن المسيحيين لم يعودوا إلى قراهم في الجبل كما كانوا قبل الحرب لأسباب عدّة.

لو دفع قسم من الأموال التي صرفت في الجبل وبيروت والجنوب لمهجّري الشمال المسيحي، خاصة للفروع، لرجع 80 – 90 % من أبناء الذين من تهجروا، وسكنوا قراهم الشمالية بصورة دائمة أو شبه دائمة.

عام 1998 جرت الانتخابات البلدية والاختيارية (بعد توقفها منذ 1963)، وتعاقب على البلدات الشمالية 4 مجالس بلدية قامت بانجازات، لكنها لم تولِ هذا الموضوع الاهتمام الكافي، فلم يحصل أي مسعى جدي لإعادة المهجرين. قد تكون الأسباب مرتبطة بغياب التمويل.

 

أيضًا منذ سنة 2005 جرت 4 دورات انتخابية نيابية وتبدل العديد من نواب هذه المناطق، ولم يتم إيلاء هذه القضية الاهتمام اللازم.

 

 

عوائق النموّ

 

إضافة إلى رواسب هذا التهجير هناك تقريباً 6 عوائق تعيق نمو القرى والبلدات على امتداد الوطن:

 

– عدم امتلاك الكثيرين أراضي في بلداتهم: قسم كبير ممن تهجروا أو نزحوا من قراهم وحتى بعض الصامدين فيها لا يملكون شبر أرض لبناء ولو غرفة إن كانوا يرغبون؟

 

قصة عدم امتلاك العديد من الشبان أراضي في قراهم تعود إلى ما قبل الحرب، وكان الدكتور جورج سعاده قدم سنة 1973 يوم كان وزيرًا للتصميم العام دراسة للاستفادة من مشاعات القرى وأراضي الأوقاف وإفرازها قطعًا صغيرة تُقدّم للشبان ليبنوا عليها منازل وفق شروط قاسية تمنع بيعها، وطبعًا نامت الدراسة في الأدراج.

– ملكية الأراضي التي لا تزال في جميع القرى تقريبًا على اسم الجد أو حتى والد الجدّ منذ وصول “المساحة” إلى القرى والبلدات ويتناقلها الأولاد والأحفاد بالعرف. إذا أراد شاب الحصول على رخصة لبناء منزل صغير، سيكلّف إنجاز معاملات حصر الإرث والانتقال مبالغ طائلة، ومماطلة لسنوات. في هذه الحالة، سيصرف النظر عن بناء منزل في قريته ويشتري في المدينة أو يحاول تشييده من دون رخصة مدعومًا من قوى الأمر الواقع.

 

– غياب فرص العمل والمدارس. إذا أراد الصامد في قريته العمل في الزراعة وتربية المواشي كأهله وأجداده، فلا أسواق تصريف لمنتجاته الزراعية والحيوانية منذ ما قبل الحرب وحتى اليوم. التجار يقتلون المزارع وهو على قيد الحياة.

 

حاول البعض إنشاء تعاونيات زراعية، لكن النتائج جاءت مخيبة فلم يتلقوا أي دعم من الدولة، فتوقفت بمعظمها.

 

أمّا المدارس، فمن المؤكد أن عدم وجود أعداد كافية من الطلاب لا يشجع على فتح مدرسة، وكلنا نسمع عن مدارس تقفل كل سنة في القرى والبلدات حتى الكبيرة منها، علمًا أن اللبناني مستعد أن يبيع أملاكه ليُعلم أولاده، فكيف لا ينزح من قريته لتأمين العلم لهم؟

 

– نسب الاستثمار: هل يعقل أن نسب الاستثمار تتراوح في القرى والبلدات ما بين 5و 20 % من مساحة الأرض؟

ردّ التنظيم المدني: كي يبقى هناك رداء أخضر. ماذا ستستفيد القرى والبلدات من الرداء الأخضر بعد أن يهجرها ناسها؟

تصوروا أن أب لديه 3 شبان وقطعة أرض واحدة مساحتها 1000 متر لا يستطيع أن يبني فيها إلا منزلًا واحدًا لولد واحد. أين يذهب إخوته؟

 

– رداءة البنية التحتية وقدمها رغم بعض التحسينات في قسم من البلدات.

– بعض المتمولين أصحاب النفوذ من أبناء هذه البلدات الذين يعتبرون بلداتهم للراحة والاستجمام نهاية الأسبوع: يأتي متمول يبني منزلًا مع حديقة في قريته، يدعو الأصحاب ويصبح همه الأساسي إقفال مصالح أبناء قريته “محل تصليح دواليب، ملاشة دجاج، ملحمة، كاراج تصليح سيارات، محل سمانة …”، والأهم “سبيل المي” بحجة أن المياه تسرح منه على الطريق ولا ننسى الملعب: صراخ الأولاد مزعج.

يكون ذاك المتمول صاحب نفوذ فيستقوي على أبناء قريته غير المدعومين، فيقفلون مصالحهم وينزحون.

 

دور الكنيسة

 

أدركت الكنيسة المارونية حجم خطر إفراغ القرى والبلدات، لذا سعت لمحاولة الحد من ذلك، فقررت أن تقام الاحتفالات الكنسية في الرعية (العماد والتثبيت والقربانة الأولى والزواج) ولكن كالعادة وبمساعدة بعض الكهنة تحولت الرعية من القرية (مسقط الرأس) إلى المدينة مكان السكن أو إلى الدير الكبير المشهور، فما عاد هذا القرار يحقق الغاية منه، بحيث أصبحت هناك رعايا ساحلية وفي المنطقة الشرقية وقرب بيروت متورمة ورعايا القرى والبلدات شبه فارغة. حتى المآتم أصبحت في المدن بمعظمها وما عادت القرى إلا لرتب شيل البخور وإلى المدافن.

 

التعاونية اللبنانية للتطوير

 

يوم توقفت الحرب عام 1991 وحلت الميليشيات، كان العلامة الأب يواكيم مبارك يقيم في المقر البطريركي التاريخي في وادي قنوبين، يعكف مع أمين سره وكاتم أسراره الخوري (راعي ابرشية البترون حاليًا) منير خير الله على إعداد دراسات المجمع الماروني.

 

بدأت تصله الأخبار عن أوضاع الشبان الذين تهجروا من قراهم وأصبحوا من دون مورد رزق بعد حل الميليشات، ولم يعودوا إلى قراهم التي تكاد تفرغ من شبانها. في خريف ذاك العام وبهدف تثبيت الشباب في قراهم وتشجيع من تهجر أو نزح منها إلى العودة، أطلق “التعاونية اللبنانية للتطوير”. وهدفت إلى:

– تقديم قروض صغيرة ومتوسطة للشباب بفوائد شبه رمزية ليتمكنوا من إنشاء مشاريع زراعية وتجارية وحرفية في قراهم

– تأمين أسواق محلية وخارجية لتسويق المنتوجات.

 

من خلال اتصالاته الخارجية تمكن من الحصول على وعود بدعم التعاونية بمبالغ كثيرة.

 

لم تمض أشهر على إطلاق التعاونية حتى قرر الأب مبارك العودة نهائيًّا إلى باريس لأسباب لا علاقة لها بهذا الموضوع، فتوقف نشاط التعاونية التي عُلّقت عليها آمال كبيرة.

 

قد تكون التعاونية اللبنانية للتطوير، آخر المشاريع المارونية العملية التي عرفتها قرانا بعيدًا من الخطابات والمؤتمرات والندوات.

 

في الخلاصة، لا تزال القرى والبلدات الشمالية المسيحية تدفع ديموغرافيًّا وإنمائيًّا ثمن التهجير الذي حصل صيف 1978 والإهمال المستمر فيها واستمرار شلال الهجرة والنزوح. فهل من الممكن وضع خطة جدية توقف النزيف وتعيد الحياة إليها؟