IMLebanon

«وثيقة التفاهم» انتصرت وصمدت أمام المتغيّرات

لإحدى عشرة سنة، ولدت ورقة جديدة، كانت بمثابة حجر زاوية لعمارة سياسيّة تأسيسيّة بل تكوينيّة للبنان. لماذا هي حجر زاوية للعمارة السياسيّة؟ قبل الغوص في المضمون القريب والبعيد، استغرب مصدر سياسيّ صديق للتيار الوطنيّ الحرّ ولحزب الله، تسميتها بورقة تفاهم، فالعلاقة قد تخطّت التفاهم للتسربل وشاحًا جديدًا، لتعبّر عن وحدانيّة الجسد، وهذا الكلام ورد في أدبيات الحزب كما في أدبيات التيار على ألسنة قياديين كبار في الحزب والتيار. ولذلك فقد نصح المصدر السياسيّ الصديق بتغيير التسمية إلى أخرى بحيث تسمى وثيقة سياسيّة ورؤية واحدة بين حزب الله والتيار الوطنيّ الحر لغد لبناني جديد.

لم يسبق للبنان على مرّ التاريخ المعاصر والحديث أن تجسّد من ورقتين كتبتا في لبنان ولم تكتب في مكان آخر، وهما بالمفهوم السياسيّ متخطيان لمفهوم التفاهم أو إعلان النيات بين التيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله، وبين التيار الوطنيّ الحرّ والقوات اللبنانيّة، إلى وثيقتين تعبران عن وعد صادق وعهد ثابت وعقد راسخ. هاتان الورقتان، أي ورقة التفاهم وورقة النيّات، أوّل ورقتين تساهمان فعليّاً بولادة هذا العهد مع رئيس العماد ميشال عون. والحقيقة أنّ اللقاء في الورقة الأول والتيار كما الحزب يحتفلان على مرور إحدى عشرة سنة على توقيعهما لم تأت وليدة ظرف أو ظروف. بمعنى أنها ليست لحظويّة كما ظنّ بعضهم فتخدم مرحلة محدّدة بالأهداف والنتائج فتنتفي صلاحيتها مع انتفاء الأهداف والنتائج، بل هي ورقة رؤيويّة تداخلت في مضمونها بالنسيج اللبنانيّ المتعدّد، سعى الحزبان المعنيان بها إلى تقديمها كوثيقة ميثاقيّة للمناقشة، كما قدّم بشارة الخوري ورياض الصلح الميثاق الوطنيّ، وما قالا بأنها وثيقة للموارنة والسنّة بل هي وثيقة لوطن ناهد وناهض نحو التكوّن.

لقد انطلق حزب الله كما التيار الوطنيّ الحرّ من مفهوم ميثاقيّ واسع، والمعارضة التي لقيتها الورقة والإرادة خلفها  تمتّ بخلفيات واضحة دامجة بين استخراج مقّع لما هو عقيديّ (ولاية الفقيه) وسياسيّ باستهداف مزدوج للمتلاقيين والمتحالفين، وقد تبيّن بأنّه استهداف مقنع بنظريّة الفوضى الخلاقة التي شيئت للبنان والمنطقة، وأريد للمسيحيين أن يتلاشوا بها أكثر مما تلاشوا في مرحلة استيلادهم خلال حقبة التسعينيات من القرن المنصرم، ويسقط الهيكل اللبنانيّ على رؤوس الجميع.

ما يجدر ملاحظته وفي هذا السياق، بان تلك الورقة التي تمّ توقيعها بين التيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله، كادت أن توقّع واحدة مثلها بين الرئيس الشهيد المغفور له رفيق الحريري والسيد حسن نصرالله بعد أسبوع تام على اغتياله من سنة 2005، وقد رأى الرئيس الشهيد آنذاك بأن ما حدث للعراق منذ سنة 2003 يقتضي نوعيّة جديدة من العلاقة بينه وبين حزب الله لتجنيب لبنان فتنة كبيرة معدّة للمنطقة المشرقيّة والعربيّة على السواء، تعنونت فيما بعد بالربيع العربيّ.

من هنا، ينبغي فهم تلك الورقة بتوقيتها الصحيح والدقيق في آن، وقراءتها بأهدافها الاستراتيجيّة البعيدة المدى. لقد حمت الورقة لبنان من كارثتين كبريين:

1-الكارثة الأولى الحرب الإسرائيليّة على لبنان في تموز من سنة 2006، أي بعد خمسة أشهر ونيّف من توقيعها. لم تحمِ لبنان من الحرب عليه، بل أيضًا ساهمت بتلاق مسيحيّ-إسلاميّ على مواجهة الحرب، ومناصرة من تهجروا من أرض الجنوب واحتضانهم في المنازل والأديرة وصالونات الكنائس، لقد تجسد النص بالسلوك فأسّس لمرحلة جديدة وطيبة من العلاقة بين المسيحيين والشيعة وساهمت بالتخفيف من وهج الفتنة التي كانت مزروعة في لبنان واستفادت في مراحل أخرى من انتهاء عهد الرئيس العماد إميل لحود، لتعيد لبنان من جديد إلى انفجار كبير ظهرت بوادره لمن يتذكّر في حوادث الرابع من شباط من سنة 2007 خلال ردّة الفعل على الكاريكاتور فتحوّلت إلى استهداف لكنائس الأشرفيّة في بيروت ومطرانية الروم فيها، وساهم رعاع آخرون بفتح كوّة في «جبهتيّ» عين الرمانة الشياح، والحدث والمريجة، مستغلين ما حصل في الأشرفية من أجل إدخال لبنان إلى الفتنة من جديد، فتدخل حزب الله وقمع هؤلاء، ومن دخل الأشرفيّة كان يحضّر لبنان للفتنة.

2-الكارثة الثانية الربيع العربيّ، وحرب سوريا. لكن ما بين الكارثتين كان لبنان في مرحلة الفراغ، إلى أن حصلت حوادث أيار من سنة 2008، لقد كشفت أوساط بأن ورقة التفاهم بين التيار والحزب بكثافة تلك الأحداث كانت المستهدفة، بمعنى أن ثمّة من أراد للتلاقي العميق أن يحترق بعد أن يخترق بعناصر فتنويّة، فتشلّ لحظته ويمنع عليه أن يخترق الحجب. ذلك أنّه بمجرد أن تحترق الورقة من جديد بنار فتنة تتأسس في لبنان على المستوى الشيعيّ-السنيّ كان وليد جنبلاط شريكاً فيها، وعلى اتهام الحزب باغتيال رفيق الحريري، مرحلة جديدة من خلط الأوراق، كان وصول الرئيس ميشال سليمان إلى السلطة إحدى ثغراتها المستورة والمكشوفة فيما بعد. من أهمّ ما حصل صمود ورقة التفاهم بقوّة وشدّة وتحوّلها في مسرى الأحداث في الداخل وعلى مستوى الربيع العربيّ إلى شبكة حماية وأمان ومنعة، منعت بالفعل من اختراق التوازن وإن عطب غير مرّة بفعل اللااستقرار بين الفينة والفينة خلال مرحلة الربيع العربيّ، وعطب بالمعنى السياسيّ من خلال تحوّل الرئيس سليمان من رئيس جاء بفعل اتفاق الدوحة إلى موقع آخر مواجه لحزب الله ومطلق لورقة بعبدا القائلة بالنأي عن النفس بلا توصيف دقيق، فحاول بها استهداف الحزب واستهداف التوافق بين الحزب والتيار الوطنيّ الحر.

وعلى الرغم من ذلك صمدت الورقة أمام المتغيّرات وأظهرت العلاقة بين التيار والحزب متانتها. راهن كثيرون على انسياب العطب إلى جوفها بغية تمزقها فسطقت الرهانات أمام صخرة التفاهم في الحزب، وترافق ذلك مع انتصار الحزب في معركة سوريا على التكفيريين إلى جانب الرئيس بشار الأسد.

ميزة التيار الوطنيّ الحرّ مع رئيسه جبران باسيل ورئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، أنه استقرأ المراحل كلّها برؤيته المشرقيّة، وحرص بدوره على ورقة التفاهم كحالة ميثاقيّة وحجر زاوية وشبكة أمان. قرأها برؤية استراتيجيّة بعيدة المدى، وفي الوقت عينه كان لها أن تساهم من خلال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله بالتأكيد على دعم ترشيح العماد عون لرئاسة الجمهوريّة وصمد الترشيح رغم كل المحاولات وبخاصّة ليّ ذراع المقاومة من أقرب الناس مودّة إليها، وبعد استنفاد الرؤى كتبت ورقة بنيويّة بين القوات اللبنانية والتيار الوطنيّ الحر اعتبرت بنقاطها العشر نسخة طبق الأصل عن ورقة التفاهم سميت بورقة النيات، وحاز العماد عون على دعم الخصم اللدود للحزب للترشج ووصل.

ما يهمّ هنا وبحسب الأوساط بان ورقة التفاهم انتصرت على معظم المراحل التي مرّ بها لبنان منذ سنة 2006 إلى الآن. وستبقى تلك الورقة مساهمة في انبلاج فجر جديد في ظلّ تفاهمات جديدة بدأت تلوح طلائعها حول مسألة قانون للانتخابات جديد. فكما انتصرت تلك الورقة في معظم العناوين يفترض أن تنتصر الآن بالتركيز في إبادة الهواجس والتأكيد بأن إبادتها تتم على أساس النسبية، ولا حل للبنان إلا بالنسبية المطلقة كما أكد رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون والسيد حسن نصرالله.

الورقة جزء من الفلسفة الميثاقية التي يحيا بها لبنان وينمو.