IMLebanon

هل يستسلم «الجنرال» أم يستقيل؟

أربع سنوات من التنازلات.. على أبواب السلطة

«من يضحك أخيراً.. يضحك كثيراً»، قالها العماد ميشال عون بملء الثقة أنه ما يزال قادراً على الوقوف مجدداً بعد الضربات الشديدة التي تلقاها من خصومه.. وحلفائه. صحيح أن العسكري ذا الباع الطويل يؤمن أن خسارة معركة من هنا أو هناك لا تعني خسارة الحرب، لكن محبين للجنرال، يخشون أن لا يتمكن من الفوز مجدداً بعد أن أثقلته الهزائم في المعارك المتتالية.

وفيما يهدد عون بـ«تسونامي جديد»، متعالياً على جراحه المتتالية، ثمة من بدأ يراقب عقارب الساعة، منتظراً لحظة استسلام الجنرال، واضعا نصب عينيه أن خسارة الرئاسة، التي صارت شبه مؤكدة، ستكون الضربة القاضية للحالة العونية.

لا يفترض أن تكون الانتكاسة الأخيرة مفاجئة لعون. من يتابع معارك الجنرال يسجل له أنه ظل يقاوم إغراءات السلطة، بما تعنيه من «مزرعة» أو «تعاونية»، إلى أن سقط في الخطيئة في بداية العام 2012. حينها، قدم عون التنازل الأول في سياق تقديمه طلب الانتساب إلى تلك «التعاونية».

وبعدما كان يدعم الوزير شربل نحاس في رفضه توقيع مرسوم «بدل النقل» الذي يخالف القانون ويهدد حقوق الأجراء، إضافة إلى تأكيده، بعدما ازدادت الضغوط على نحاس، أن الأخير «خط أحمر ورأسه يساوي رأس الحكومة»، انقلب عون على نفسه وقال لوزيره «وقّع ثم اعترض»، فسقط نحاس وسقط معه قانون «تحديد مفهوم الأجر وشروط حمايته وصونه»، الذي كان يمكن أن يعدل طريقة تعامل السلطة مع حقوق العمال، لكن الأهم أن عون نفسه سقط في بازار السلطة، على أمل، أو ربما وعد، بأن يصبح أحد رجالها.

تغاضي عون عن تلك المخالفة، جرّ عليه الكثير من غض النظر. ودائماً، أملاً في تعويض يثبته ركناً في «السلطة ـ المزرعة»، التي بنى أمجاده الحديثة على مواجهتها.

أما البراغماتية التي لطالما نبذها تأكيداً على مبادئه، فلم يتأخر قبل أن يسميها «واقعية». تلك «الواقعية» جعلته لا يواجه التمديد الأول لمجلس النواب بفاعلية. وجعلته لا يواجه التمديد الأول للعماد جان قهوجي، الذي وقعه وزير «تكتل التغيير» آنذاك فايز غصن. أما حجة أن الحكومة كانت حكومة تصريف أعمال، فكان يمكن لها أن تكون مقنعة لو أن وزراء «التكتل» طرحوا مسألة التعيين مع تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام، لكنهم لم يفعلوا. «التكتل» نفسه كان شريكاً في القضاء على «هيئة التنسيق النقابية»، فتحالف مع كل أركان السلطة لترويضها وجعلها توأم الاتحاد العمالي. تنازلات عون لم تتوقف عند هذا الحد. في التمديد الثاني لمجلس النواب كان يمكنه أن يضرب بيده على الطاولة فارضاً تغيير المعادلة لكنه لم يفعل، وظل نوابه، الممدد لهم «رغماً عنهم»، نواباً يمارسون أعمالهم بشكل طبيعي!

قبل ذلك، وتحت رحمة الرئاسة وحلم الوصول إلى بعبدا، ما كان مستحيلاً صار ممكناً. تبرأ العونيون من «الإبراء المستحيل»، في ظل تقارب زعيمهم مع زعيم «تيار المستقبل»، كما مرر وزراؤهم تعيينات كثيرة لصالح «الصداقة الجديدة»، ربما أبرزها تعيين الأمين العام لمجلس الوزراء، الذي لم يجادل أحد في حق «المستقبل» باختياره.

تطول لائحة التنازلات العونية، لكن عون قد يكون، اكتشف بعد التمديد مجددا لقائد الجيش، أن ما قدمه على مدى ثلاث سنوات، لم يأخذ مقابله سوى الوعود والأمل بإمكانية قبول طلب عضويته في مجلس إدارة «السلطة ـ المزرعة».

وفي المقابل، بدا جلياً أن أحداً غير مستعد لإعطاء عون حتى جائزة ترضية مقابل كل ما قدمه. وبالرغم من أنه قيل مراراً أن دولاً كبرى وصغرى تدخلت لإبقاء قهوجي في منصبه، إلا أنه بدا واضحاً أن الأيادي الداخلية كانت الطولى في هذا السياق. وهي كانت قد حسمت قرارها باكراً، ليس بإقرار التمديد فحسب، إنما بإقراره مع أكبر قدر من الاستفزاز لعون. فمؤيدو التمديد، اكتفوا بالإشارة إلى أن التوافق على التعيين مستحيل.. من دون مجرد النقاش بالأمر جدياً في مجلس الوزراء. طرح وزير الدفاع عدداً من الأسماء للمناصب التي ستشغر قريباً، كما فعل وزير الداخلية قبل ذلك مع الشغور في قيادة قوى الأمن الداخلي، لكن أحداً لم يناقش في الأسماء.. حتى الاعتراض العوني بدا غريباً أيضاً، إذ لم ينزعج الوزير جبران باسيل سوى من عدم مناقشة الأسماء مع «التيار» قبل جلسة مجلس الوزراء، كما لو أن الحكومة هي كاتب عدل، يصدق الاتفاقات التي تتم خارجه.

وإذا كان ذلك قد يكون واقعياً إلى حد كبير، فإنه كانت أمام الوزراء العونيين فرصة تأكيد أنهم «رؤساء للجمهورية بالوكالة»، فيناقشوا ويطالبوا الوزير المعني بكل التوضيحات المطلوبة، إذا لم يكن في الجلسة نفسها ففي جلسة لاحقة ربما، لكنهم لم يفعلوا وأَضاعوا كل فرصهم في التأثير في مجرى الأمور.

الاستخفاف بمطالب عون والاستبسال في إعطاء المعركة بعداً كيدياً مرفقاً بالإمعان في مخالفة القانون، يوحي أن المطلوب أكثر من التمديد للعماد قهوجي هو ضرب عون وربما إقصاؤه عن الحياة السياسية إن أمكن ذلك. فالحريص على الجيش اللبناني وعلى دوره في مكافحة الإرهاب يعرف جيداً أن تغيير قائده لن يغير في عقيدته ولا في دوره، كما لن يؤثر على معنويات جنوده وضباطه، لا بل ربما العكس. فتغيير القيادات العسكرية في معظم أنحاء العالم غالباً ما يكون أمراً روتينياً يتعلق بالتراتبية العسكرية، أضف إلى أنه لا يكون مادة للأخذ والرد في الشارع.

كل ذلك يعيد النقاش إلى المربع الأول. لماذا تجند الجميع لمحاصرة عون؟ وهل يعقل أن يردد وزراء أننا نؤيد شامل روكز لقيادة الجيش، وعارضناه نتيجة إصرار عون عليه؟ وإذا كانت «14 آذار» تعاقب عون، بالوكالة، لموقفه الداعم لـ«حزب الله»، كما يردد العونيون، فإن ذلك يطرح أكثر من علامة استفهام حول موقف حلفاء عون وعلى رأسهم الرئيس نبيه بري، الذي بدا في هذه المعركة أكثر تشدداً من «المستقبل». هؤلاء لم يكتفوا بالتمديد، إنما احتفلوا به أيضاً، كما فعل النائب طلال ارسلان أمس، حين أرسل وفداً لتهنئة قهوجي بتأجيل التسريح!

حتى «حزب الله» الذي يكثر من التأكيد على العلاقة الاستراتيجية مع عون، لم يصرف خطاب المناصرة على أرض الواقع: في معركة التعيينات الأمنية، مرر التمديد لقيادة الجيش بهدوء، وفي معركة رئاسة الجمهورية تراجع خطوة إلى الوراء، وبعد أن كان عون «مرشحنا إلى رئاسة الجمهورية» صار «ممراً إلزامياً» لها. وهو إذ وضع سقفاً لتحركات عون هو الحفاظ على الحكومة، لم يقف عند خاطره في ربط المشاركة في جلسة تشريعية بطرح بعض القوانين على الهيئة العامة، ولو شكلياً، إنما دعاه إلى النزول إلى المجلس.

بعد نحو أربع سنوات من التفاتة عون نحو السلطة، ما يزال عالقاً أمام العتبة. أنهكه التعب أثناء تنقله من تنازل إلى آخر كما أنهكه انتظار التعويض. وبعدما كان يجاهر بأنه يرتاح أكثر في المعارضة، صارت السلطة تجاهر بأنها لا ترتاح إلى وجوده معها. كل ذلك يشي أن الخيارات أمام عون صارت محدودة، فإما يستمر في السعي لدخول «جنة السلطة»، مقتنعاً بأن وصوله إلى الرئاسة سيضع حداً نهائيا لخسائره، وإما يستمر في التمسك بما يعطى إليه راضياً شاكراً، وهو ما لم يعرف عنه.. وإما لا يبقى أمامه سوى رمي الاستقالة من مجلس النواب في وجه الجميع، والتسريع في الاستفتاء الشعبي الذي يرغب به من خلال فرض تقريب موعد الانتخابات.