IMLebanon

الثنائية الشيعية والثنائية المسيحية..استحالة المحاكاة

 

ثمة تفاوت في المركّب العسكري الأمني بين “حزب الله” الذي يمتلك السلاح ويخوض الحروب، وبين القوى اللبنانية المسلحة سابقاً والتي باتت منزوعة السلاح وبين القوى الناشئة أساساً من خارج زمن الاحتراب ومعادلات السلاح. تفاوت أيضاً في نمط العلاقة مع العنف، ما بين تماثل معه كما لو أنه نمط للوجود والديمومة، وما بين نوستالجيا مضمرة أو مشتتة اليه، أو إدراك نهائي للشرّ الجذري الكامن في العنف الأهلي، أو اعتناق حاسم لمبدأ حصرية السلاح في يد الدولة، احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي اذا شئنا استعادة مقولة عالم الاجتماع الالماني التأسيسي ماركس فيبير الشهيرة.

 

ثمة بالتوازي انعدام توازن من نوع آخر. هو في شكل التحقق السياسي لكل طائفة ضمن التركيبة اللبنانية. فالطائفة الشيعية انتقلت من ثنائية تصادمية، بل تناحرية، بين “حزب الله” وحركة “امل” في نهاية الثمانينيات، الى تعايش بين الفريقين على قاعدة سيطرة الحزب الفعلية على معظم الجغرافيا الشيعية، الى اتفاق منهجي ومزمن وصلب بين الطرفين، هو في شكل منه توزع لمجالات التركيز والنفوذ والدور، لكنه في نقطة معينة، في التوزع البرلماني تحديداً، صار أقرب الى اعتماد المناصفة الداخلية بين الفريقين، وعلى هذا الاساس استطاعا في الانتخابات الاخيرة كسب الجولة كاملة في ما يعني المقاعد الشيعية من مجلس النواب. لا يمكن التكهن بمآلات الثنائية الشيعية في المستقبل، لكن ما اتضح في العقدين الأخيرين انها تمتلك حيوية ومناعة داخلية بالشكل الذي لم يكن محتسباً عند الاطراف الآخرين، وان هناك بعد كل شيء ذهنية استيعابية عند الطرفين لا يمكن اختزالها فقط بالحسابية الدقيقة، ولا يمكن اختزال كل شيء اليها في الوقت عينه. هذه الذهنية الاستيعابية، الاعتبارية من الماضي، والتي تفهم في الوقت نفسه الخلاصة الحربية لهذا الماضي الذي يراد إبعاد مفاعيله المأسوية عن الحاضر، متوفرة بشكل مختلف عند الطرفين. الثنائي “حزب الله” وحركة “أمل” له ان يدرس بعناية كنموذج مدهش في المسارات السياسية اللبنانية وليس كشيء بديهي ابداً. ما له ان يدرس بعناية ايضاً هو كيفية نظر الاطراف الاخرى الى هذا الثنائي، والمردود البائس لمحاولات فكفكة هذا الثنائي، كما لمحاولات تجاوزه، ولو جزئياً. صحيح انه في البلد، هناك ناس مشكلتهم مع “حزب الله” اولاً، وهناك ناس يتصادمون مع حركة “امل” اكثر، لكن هذا لم يؤدِّ الى اي مشكلة داخلية في الثنائي الشيعي. بالعكس، زادته هذه الاشياء مكنة ورسوخاً.

 

ليس هناك في تاريخ العمل السياسي للنخب السنية في لبنان ما يمكن مقارنته بالثنائي “امل” و”حزب الله”. في المقابل، ومنذ نهاية الثمانينيات، وجدت طريقها المقارنة بين الاستقطاب المسيحي الداخلي، بين تيار العماد ميشال عون والقوات اللبنانية وبين الثنائي الشيعي. يومها كان الثنائي الاخير سبق الثنائي المسيحي الى التصادم، وكان الثنائي المسيحي يمنّي النفس بمناعة تكاملية مديدة تقارن بالتكامل مع الجيش الفيتنامي الشمالي وبين مقاومة الفيتكونغ في الجنوب، وهي الاحالة التي انتشرت بشكل او بآخر في اوضاع بلدان كثيرة، بل انتشرت بقدر ما ظهرت صعوبة نقلها خارج اطار التجربة الفيتنامية (في الاردن عام 1970 على سبيل المثال لا الحصر). انفجر الثنائي المسيحي حرباً ضروساً كانت الحلقة شبه النهائية من الحرب الاهلية اللبنانية، ما قبل التدخل السوري النهائي لاجتياح مناطق سيطرة العماد عون. وعاش هذا الثنائي بعد ذلك ظروفاً مختلفة. بين عون المنفي، لكن المتمتع بأكثرية شعبية مسيحية مناصرة له، وبين القوات الداخلة في عقد اتفاق الطائف، ثم المحتجة على حصتها الحكومية، ثم الداخلة قيادتها في صراع على رئاسة حزب “الكتائب”، ثم في الخلاف الكتائبي ـ الكتائبي المنتهي الى مصادرة رسمية لمفاتيح بيوت “الكتائب”، وتوجب طلب رئاسة “الكتائب” حينذاك استردادها من دمشق، ولكل شيء ثمنه، ثم استئناف “القوات” للشعار السيادي، والانقضاض الامني عليها وحظرها، واعتقال قائدها ومحاكمته بتهمة ثبت بطلانها انما فتحت عليه باب تهم اخرى، ما دام أُسقط قانون العفو عنه. جرى كل هذا في النصف الاول من التسعينيات. في النصف الثاني صارت الثنائية المسيحية هي ثنائية استشعار بوحدة الحال، بين السجن والمنفى، بين الرافض للطائف والداخل فيه، بين الآتي من المركز والقادم من الطرف، وحدة حال استظلّت لاحقاً بالدور الحيوي للكنيسة المارونية في تدشين معركة استرجاع السيادة، سواء من خلال نداءات مجلس المطارنة وحركة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير ومواقفه، او من خلال ظاهرة “لقاء قرنة شهوان”، تلك الجمعة بين الانتلجنسيا والاعيان والحزبيين.

 

بعد نهاية فترة السجن والمنفى، وفي اعقاب الجلاء السوري عن لبنان، اختلفت مجدداً مواقع الطرفين، واخذت الثنائية طابعاً تنافسياً بالتأكيد، وانما تنافس في اطار انخراط كل من “القوات” و”العونيين” في محورين سياسيين مختلفين، احدهما أتبع خطابه السيادي بإزاء الوصاية السورية، بخطاب سيادي بإزاء “حزب الله”، والآخر تطورت اموره نحو توقيع التفاهم مع “حزب الله”، والانخراط اكثر معه بعد حرب تموز، في “المعارضة” الحصارية لحكومة فؤاد السنيورة. في نفس الوقت، واذا ما تجاوزنا المناخ القتالي ليوم 23 كانون الثاني 2007، بقي الشارع المسيحي يعيش اختلاف المواقع بين التيار “الوطني الحر” و”القوات” بشكل سلمي للغاية، وديموقراطي اذا ما استعنا بانتخابات 2009 ومناخها. ما يسجل انه في تلك الفترة ابتعد كل من الطرفين عن محاكاة نموذج الثنائية الشيعية، لامر بسيط، ارتباط كل منهما الوثيق بحلفاء مسيحيين له من خارج اطاره الحركي او التنظيمي. 8 آذار المسيحية ما كانت لتختزل بالعونيين، و14 آذار المسيحية ما كانت لتختزل بالقواتيين. المنحى الاختزالي سيجري احياؤه لاحقاً، مع بداية تخلّع 14 آذار، ودفعاً لها الى انفراط العقد بشكل حاسم. فقط في مرحلة ما بعد 14 آذار، عدنا الى مركزية خطاب الثنائية المسيحية، والى المحاكاة القصوى للثنائي الشيعي، ثم لاكتشاف الواقع الابسط والبديهي: ان ظروف الواقع الشيعي مختلفة للغاية عن ظروف الواقع المسيحي، وكل محاولة لتطبيق الواقع الشيعي على الواقع المسيحي لن تؤدي الا الى تعميق الشقاق بين العونيين والقواتيين، ولو بعد توقيع تفاهمات وشهور عسل.

 

“تفاهم مار مخايل” قام على قاعدة إبهام. بين صفته كتفاهم وبين مآله كتحالف. “تفاهم معراب” قام على إبهام أكبر. بين صفته كمصالحة بين طرفين لدودين وبين مشروعه كتحالف اقتباسي لفكرة الثنائي الشيعي، في نفس الوقت الذي احد طرفيه حليف لـ “حزب الله” والطرف الثاني خصم مع “حزب الله”. تناقض، بل مجموعة تناقضات انشطارية، لو طرحت في شكلها السياسي فقط لأمكن التحكم بأمر الخلاف، لكنها أكثر ما تطرح فبشكل عاطفي، درامي، ميلودرامي، كمسلسل عن زيجة متعثرة، يمكن قول اي شيء بصددها الا اعتبار ان التعثر فيها كان مفاجئاً، او انه لم يكن متوقّعاً. كانت زيجة متعثرة مع سابق الإصرار. الإقرار بهذا شرط اساسي لانتقال الطرفين الى حالة “البست فرندز”. ذلك انه آن لاسبوع التراشق هذا ان تطوى صفحته، وبسرعة.