IMLebanon

قراءة إقتصادية في تصويت المُغتربين… هل ألّـهم الواقع الاقتصادي خيار المنتخبين؟

 

إعتراض إجتماعي ومصلحة فردية تمّ إعتمادهما في عملية التصويت

لا خروج من الأزمة الإقتصادية من دون أغلبية نيابية ذات رؤية إقتصادية موحدة

 

طورت العلوم السياسية نظريات للتنبؤ بخيار الناخبين في العمليات الإنتخابية وعلى رأسها الإنتخابات النيابية. وبرز بين هذه النظريات ما يُعرف بنظرية «التصويت الإقتصادي» على نطاق واسع في الأبحاث العلمية وذلك منذ أوائل الثمانينات.

 

في العام 1957 قام الباحث «أنطوني داونز» بطرح فكرتين أساسيتين: الأولى تنص على أن الناخب هو «فرد عاقل»، والثانية أنه يسعى إلى تعظيم مصالحه وصوته وفق معادلة بين الكلفة والإستفادة. وفي العام 1960، قام «انجوس كامبل» وباحثون أخرون بوضع ما يُسمّى بـ «قمع عوامل التصويت» في إطار بحث شهير (The American voter) حيث تمّ تحديد العامل الإقتصادي كعامل على المدى القصير وعلى الرغم من أهمية هذا العامل، فإن الإنتماء الحزبي يكون له عمومًا نطاق تبريري أقوى حيث يمكن أن تتشوه الروابط بين تصورات الاقتصاد والاختيار الانتخابي بشكل غير مباشر بواسطة الإنتماء الحزبي، وبالتالي يمكن لهذا المتغير تعديل تصورات الفرد. لذلك هناك خطر بوجود علاقة مضللة (Lewis-Beck et al.2008).

 

من جهته قال «وليام نوردهاوس» (1975) أن الناخب «غير متطور» (unsophisticated) و»ساذج» (naive)، فهو لا يقوم بإجراء تقييم مفصل للإقتصاد بل أن تصوّراته عن الإقتصاد تتشكلّ على المرحلة السابقة، ونظرته قصيرة المدى على الاقتصاد وأداء الحكومة. إستنتاجات نوردهاوس، حوّرها «كينيث روجوف» (1990) إذ قال أن مقارنة المؤشرات الاقتصادية تدفع الناخب إلى إجراء تقييم جيد للاقتصاد، حيث يقوم بحساب الفرق بين حالة الإقتصاد الحقيقي وحالة الإقتصاد التي كان يرغب فيها.

 

تتم دراسة تأثير التصويت الاقتصادي (على عملية التصويت) على المستوى الكلي، وبالتحديد عبر استخدام البيانات المُجمّعة. وتسعى هذه المنهجية في دراسة التصويت الاقتصادي إلى تحليل وفهم آثار تصورات الاقتصاد من خلال مؤشرات الاقتصاد الكلي. وعملًا بـ «قمع عوامل التصويت» وبالتحديد العامل الإقتصادي على المدى القصير، ركز الباحثون على تأثير التصويت الاقتصادي على الأحزاب الحاكمة خصوصًا تلك المُمثلة بالحكومة الحالية. فقد خلص «داسونفيل» و»لويس-بيك» في العام 2014 إلى أن تأثير التصويت الاقتصادي على الحكومة الحالية أكبر بكثير حيث أنه كلما كان النمو الاقتصادي أكبر، زاد عدد الأصوات التي ستحصل عليها القوى السياسية الداعمة للحكومة. هذا الإستنتاج تمّ إثباته من خلال دراسات ميدانية في العديد من الديموقراطيات الغربية ويُشكّل إجماع نادر في مجال الدراسات الانتخابية.

 

ومع ذلك، تبقى العديد من الأسئلة حول آليات ما يسمى بـ «التصويت الاقتصادي». هل التصورات مهمة أكثر من الواقع الاقتصادي الموضوعي؟ هل هو تقييم للأداء الاقتصادي للحكومة الحالية أم هو تقييم للتوقعات حول الآثار المستقبلية لسياسات الأحزاب المتنافسة في الانتخابات؟ عند تقييم الأداء الاقتصادي للحكومة، هل يولي الناخب وزناً أكبر لوضعه المالي (أي مصلحته الخاصة) أو للوضع الاقتصادي العام (أي المصلحة العامّة)؟ هل هناك أوقات يترجم فيها الناخبون تقييماتهم الاقتصادية بشكل مباشر إلى أصواتهم، ويعاقبون الحكومات في حالة ركود أو يكافئونهم بالدعم في الأوقات الجيدة؟…

 

في الواقع، تداعيات الواقع الإقتصادي على الخيارات الإنتخابية تتغيّر في الزمان والمكان. وتُشير الدراسات إلى أن نمّذجة هذه التغيّرات تفرض الكثير من التحدّيات في محاولة لفهم عدم الثبات في العلاقة بين الواقع الإقتصادي والإنتخابات من بلد إلى أخر أو حتى إنتخابات أخرى ضمن نفس البلد. وتستخلص الدراسات إلى أن الواقع الإقتصادي له تأثير أكبر في بعض البلدان حيث تعود الأسباب إلى عوامل مؤسساتية وخصوصًا قانون وآلية الإنتخاب. ففي البلدان التي تستخدم نظام تصويت لا يتوافق فيه عدد النواب المُنتخبين مع عدد الأصوات التي تتلقاها الأحزاب، وحيث يكون الحزب الفائز ممثلاً بشكل كبير في البرلمان، تكون الحكومات في الأغلبية مُشكّلة بشكل منتظم ومتجانسة (أي تشكلت من قبل حزب سياسي واحد). وبالتالي يُصبح من السهل على الناخبين أن ينسبوا مسؤولية تردّي الوضع الإقتصادي إلى «الحزب» الذي يشكل الحكومة بمفرده.

 

أمّا في الأنظمة التي تعتمد التصويت النسبي، فيُصبح الأمر أكثر صعوبة، خصوصًا عندما تتشكل الحكومة من ائتلاف من عدة أحزاب. وبالتالي تضيع المسؤولية بين الأحزاب المُشاركة في الحكومة (فكيف الحال في حكومات كتلك التي تتشكّل في لبنان؟).

 

وبالتالي فإن فكرة المسؤولية مهمة للغاية في تفسير المدى الأكبر أو الأصغر للتصويت الاقتصادي من بلد إلى آخر. وهو يفسر سبب تميز التصويت الاقتصادي في نظام تصويت أكثري أكثر منه في نظام تصويت نسبي. ويُمكن أيضًا استخدام المفهوم نفسه لشرح سبب اختلاف تأثير التصويت الاقتصادي من نوع انتخاب إلى آخر في نفس البلد.

 

من هذا المُنطلق يستنتج الباحثون أن تأثير الواقع الإقتصادي على التصويت يختلف اختلافًا كبيرًا اعتمادًا على السياق المؤسسي للبلد. لكنه يختلف أيضًا من انتخابات إلى أخرى في نفس البلد اعتمادًا على السياق السياسي الذي تجري فيه الانتخابات. وتنص الأبحاث على أنه في بعض الحالات، يكون لقضايا أخرى أولوية على العامل الإقتصادي. هذا الأمر يدفع ببعض الأحزاب إلى إثارة مواضيع إنتخابية يمكن أن يكون لها تأثير على قوة التصويت الإقتصادي.

 

إضافة إلى ذلك، يُمكن للناخب أن يُفضل وضعه الخاص (أي مصالحه الخاصة أو التقييمات «الأنانية») أو أن يُعطي وزناً أكبر للأداء العام للاقتصاد (أي المصلحة العامة حتى لو لم يكن هناك من إستفادة له أو التقييمات «الإجتماعية») في عملية صنع القرار التي ستقوده إلى دعم أو عدم دعم حزب مُعيّن.

 

تصويت المُغتربين اللبنانيين يخضع بقسم كبير لإستنتاجات الأبحاث العلمية، فبين الإنتماء الحزبي الذي له أكبر وزن في العملية الإنتخابية، إلى تقييم الواقع الإقتصادي الذي يؤثّر على قرار قسم كبير من المغتربين من خلال عدم قدرتهم على سحب أموالهم من المصارف، الى الواقع المعيشي الذي وصلت إليه الأمور (خصوصًا بالنسبة للمغتربين الذي هاجروا بعد الأزمة)… تتنوّع دوافع تصويت المُغتربين اللبنانيين. ويأتي نموذج حكومات الائتلافات الحكومية أو حكومات الوفاق الوطني لتُعقّد عملية تحميل المسؤولية على الأحزاب السياسية (أقلّه في ذهن بعض الناخبين) لتدفع هؤلاء للتصويت لوجوه جديدة عملًا بشعار «كلّن يعني كلّن».

 

بالطبع إنتخابات المُغتربين اللبنانيين لا تحسم الإنتخابات النيابية اللبنانية حيث يتوجّب إنتظار الأحد القادم بعد عملية الإنتخاب في الداخل اللبناني لمعرفة حجم القوى السياسية في المجلس النيابي الجديد وبالتالي التمثيل في حكومة ما بعد الإنتخابات. إلا أنه وفي ظلّ التردّي المُستمر للواقع الإقتصادي والمالي والنقدي والمعيشي، ماذا يُمكن للمجلس النيابي الجديد أن يتخذّ من إجراءات للتخفيف من وطأة الأزمة؟

 

الواقع المؤسسي والنسيج الإجتماعي للمجتمع اللبناني يجعل من شبه المُستحيل الخروج من الأزمة في ظل غياب رؤية إقتصادية موحّدة لدى الأغلبية النيابية خصوصًا مع الإنقسام السياسي الحاصل والذي سيجعل كل إجراء تصحيحي أو إصلاحات إقتصادية وإدارية وقانونية نقطة خلاف بين القوى السياسية والتي ستبرز في المجلس النيابي وإستطرادًا في الحكومة (صورة مُصغّرة عن المجلس النيابي)، وهو ما سيؤدّي إلى شلّ عمل الحكومة وتأخير الإصلاحات.

 

في الواقع هناك سيناريوهان مُحتملان: الأول تفاؤلي وينص على تشكيل حكومة سريعًا بعد الإنتخابات النيابية على أن تقوم القوى السياسية من خلال نوابها، بتسهيل عمل الحكومة الإصلاحي. والثاني تشاؤمي وينصّ على إستمرار الإنقسامات السياسية وانتقالها إلى العمل النيابي وهو ما قد يؤدّي إلى التأخر في تشكيل الحكومة أو عدم تشكيلها والإستمرار في حكومة تصريف أعمال إلى حين يستجّد عوامل خارجية تُغيّر في المعادلة الداخلية.

 

في كِلا الحالتين، يجب معرفة أن الفترة التي ستلي الإنتخابات ستكون فترة صعبة على اللبنانيين خصوصًا أن المؤشرات تدل على تردّ كبير في الكتلة النقدية بالعملة الصعبة نتيجة الإستنزاف الحاصل من باب الإستيراد، وهو ما قد يدفع الحكومة للطلب من مصرف لبنان إلى وقف تأمين دولارات الإستيراد أي وقف العمل بالتعميم 161 والتعميم 158. هذا الأمر المطروح سيؤدّي إلى إرتفاع مُستطردّ في سعر صرف الدولار الأميركي في السوق السوداء (وإستطرادًا على منصّة صيرفة) وبالتالي إرتفاع الأسعار بشكل كبير. هذا السيناريو المُحتمل قد تكون وطأته أقلّ في حال الإتفاق مع صندوق النقد الدولي أو الإتفاق مع جهة خارجية أخرى لضخ دولارات في الماكينة الإقتصادية وبالتحديد في القطاع المصرفي. إلا أن كل هذا يبقى رهينة إستعداد الحكومة العتيدة (حكومة ما بعد الإنتخابات) والدعم من قبل المجلس النيابي للقيام بإصلاحات أصبحت أكثر من ضرورية.