IMLebanon

الهروب من الجحيم السوري إلى الجحيم العنصري

أوروبا أقفلت أبواب أسوارها أمام اللاجئين السوريين. هي مشغولة الآن بإنفاق أكثر من مليار دولار، لبناء مبنى للاتحاد الأوروبي في بروكسل. انجيلا ميركل «تعترف» بالقرار الخاطئ الذي سمحت فيه باستقبال مليون لاجئ سوري. خافت من صعود اليمين المتطرف، صاحب تجارة طرد الغرباء من ألمانيا. العبء في أوروبا واقع على ضحيتي الجغرافيا: اليونان وإيطاليا. أمس، تم إحراق مخيّم موريا للاجئين في ليسبوس اليونانية، فيما رئيس حكومة إيطاليا يسخر من المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي، ويقترح عليهما، وضع السفينة التي غرق فيها مئات اللاجئين في المتوسط، إزاء المبنى المقترح إنشاؤه للاتحاد الأوروبي. ينفقون المليارات على الحجر، ويبخلون بالفتات على البشر في الرمق الأخير من الإنسانية.

مؤتمر دولي، على هامش اجتماعات الهيئة العامة للأمم المتحدة، يتحدث عن أرقام اللاجئين، ويصف الهجرة والنزوح السوريين، بأنهما أكبر كارثة بعد الحرب العالمية الثانية، ثم ينذر الفقر، ويتخلف عن المساهمة في استقبال النازحين ويحيل أمر المساعدات إلى تبرعات شحيحة، نال منها لبنان، حتى الآن، حصة بائسة جداً، ومذلة جداً، ولا إنسانية بالمرة. «برنامج الأغذية العالمي» و«المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومنظمة اليونيسف، كشفت في دراسة ميدانية، أن 70 في المئة من العائلات السورية النازحة، يعيشون تحت خط الفقر في لبنان.

يحفل لبنان، بخطاب مضاد للنزوح، يتصف بلغة من سلالة اليمين الأوروبي المتطرف. يمين لا يكذب، صريح، مواجه، لا يريد اللاجئين فوق أراضيه. مرشح يميني فرنسي طالب بتطهير منطقته من الغرباء، باستثناء الحائزين على صفة اللجوء السياسي. لبنان، وهو يعاني من الرقم الكبير للنازحين، يطالب فيه وزير الخارجية جبران باسيل، وعدد غير يسير من الطبقة السياسية «اللبنانوية»، بإعادة النازحين، إلى «أراضٍ سورية آمنة»، منعاً لتوطينهم. كل هذا والحرب لم تنته بعد، وتتنقّل من جبهة إلى جبهات.

أي أرض آمنة في سوريا؟

لا غرابة في أن يلتقي الوزير باسيل الرئيس الهنغاري، المصاب بلوثة اليمين المتطرف، والذي أقفل أسوار «دولته» بالأسلاك الشائكة والسواتر الإسمنتية والكاميرات الحديثة، وأقام على حراستها، أجهزة مستعدة لإطلاق رصاصة الاستقبال، على مَن يحاول العبور إلى «جمهورية الكراهية». «.. إن الطيور على أشكالها تقع». خطاب الوزير بالجالية اللبنانية في المغتربات لا يشير أبداً إلى تحدُّر اللبنانيين هناك، من أصول نازحين، تركوا لبنانهم إبان حروب «الأخوة الأعداء»… قليل من المنطق فقط، حيث تجوز المقارنة، وحيث يبلغ التناقض حدَّ عدم الشعور بالخجل…

فزاعة التوطين، لا تُفزع أحداً. النازحون السوريون في لبنان، لن يوطّنوا فيه. الدستور يمنع ذلك، قبل عقدة الديموغرافيا، وبرغم المتاجرة بها، حفاظاً على توازن، مختل أساساً. القياس بالديموغرافيا، ليس لمصلحة المسيحيين، ولا لمصلحة الشيعة. هذا بالكلام اللبناني الطائفي المشبرح، غير العابر للطوائف والمذاهب.

ما هو مفزع حقاً، غياب الضمير وهجرة القلب وإغلاق العيون، على المعاناة الإنسانية. النازح كائن أعزل لا يملك غير رغبة بالبقاء حياً. يجازف بالرهان على المجهول وعذاباته، لقاء سراب النجاة من القتل أو الخطف أو الإذلال. يهرب من جحيم تحرق جسده، إلى جحيم تتصيّد روحه وتلزمه بتقديم تنازلات، يخرّ فيها ساجداً على روحه، طلباً لصدقة أو لحفنة من الخلاص.

كم عدد النازحين. سبعة ملايين؟ أكثر من ذلك؟

لكل سوري نازح قصة لوعة. حكاية موت. عائلة ناقصة. أولاد في العراء. مقامرة بالسراب. ركوب الخطر ولو كان الغرق في البحر. ماذا يعرف الناس، عن جلجلة الإنسان السوري؟… هو ليس رقماً يتكدّس فوق أرقام. هو ليس مسألة حسابية. هو فم جائع، عيون زائغة، وراء حزين، أمام مخيف، إقامة مفزعة، اتهام من دون ارتكاب، يُلام لأنه ينافس في ارتكاب المهن الشاقة. يُهان لأنه مخلاف، ويكثر من الإنجاب. يتمنون لو أنه عاجز وامرأته عاقر والجنس حرام.

لكل سوري نازح قصص مع الحرمان والإحباط واليأس. يروي محققون ميدانيون، عن بناتٍ بعمر الصبا، فاوضن على كأس عصير ببكارتهن. مَنْ يصدّق؟ ألا يخجل هؤلاء البشر، جماعات اعتبار النازحين أرقاماً، من هذا الدرك الإنساني الذي بلغوه؟

ماذا لو عرفوا، أن الذين أقفلت في وجوههم أبواب القلعة الأوروبية الحصينة في اليونان، قد ارتكبوا «جريمة البقاء» بممارسة الجنس الكريه، مع العجزة وكبار السن؟ لم يكن أمام شريحة من اليائسين من النجاة، سوى تسوُّل وتوسّل ألف وسيلة، لجمع حفنة من الدولارات، كي يعودوا إلى بلادهم، بعد ذل التشرد وظلم الميسورين وتسلّط المتعصبين؟ باعوا عِرض شبابهم من أجل العودة إلى «الجحيم السوري». هذا الجحيم العسكري، أقل إهانة من الجحيم الأخلاقي، الذي توقد نيرانه، عصبيات متعصِّبة وعمياء، وفاقدة الروح، وطالقة مع الضمير، وغائبة عن المحبة.

هذا عالم غير جدير بأن تصافحه.

… وهؤلاء نازحون، جدير أن يقف الناس إلى جانبهم، هنا وهناك وفي كل مكان. جدير أن يتعرّف الإنسان عليهم ويلملم قصصهم. لأنها قادرة أن تظهر الحرب بكل بربريتها، فالنازحون، بشر، أيُّها العالم.