IMLebanon

الأب الياس العنداري

 

“صمت صوته، وتوقفت أنفاسه، لكن ذكراه ستبقى حيّة في القلوب إلى الأبد. آمين”.

 

 

 

بهذه الكلمات أنهى الأب الياس العنداري رثاءه للأباتي شربل قسيس، معبّراً بصدق عن “ارتباكه واندهاشه أمام عظمة هذا الرجل. وإذا سُمِح لي بالإفصاح، أشعر بأن الكلمات تعجز عن إيفائه حقه”. جبيل -25 شباط 2001.

 

 

 

ولعل الصعوبة ذاتها ترافقنا اليوم في وداع الأب العنداري، الذي رحل يوم السبت 8 آذار 2025، تاركًا وراءه إرثًا من النضال الروحي والوطني، وسيرة ناصعة سطّرتها مواقفه خلال حرب شرسة على أهله وناسه، ولا تزال.

 

 

 

لم يكن الأب العنداري مجرد راهب ديري وأبٍ خادم على مذبح الرب، بل كان أيضاً ضميراً حياً، ورمزاً من رموز الصمود في تاريخنا في هذا الشرق. حمل همّ القضية اللبنانية في قلبه، وآمن أن لا خلاص للبنان إلا باستعادة دولته من براثن الاحتلال والهيمنة.

 

 

 

وُلِد الأب الياس العنداري في “كفور العربة”، في بيت شهد على تحولات الزمن وأحداثه العاصفة. يروي فرنسوا معراوي أنه خلال معركة قنات سنة 1978، حين كانت معاقل مقاتلي القوى اللبنانية تستبسل أمام الهجمة السورية، حوّل والده، أنيس العنداري، منزله إلى ثكنة عسكرية ومركز لوجستي، حيث أصبح محطة راحة للمقاومين، ومطبخاً، ومستشفى ميدانياً يداوي الجرحى. كان ذلك زمن سقوط الدولة، حين اضطر الأحرار إلى بناء دفاعاتهم بأنفسهم، ورفضوا أن يكونوا أسرى لمعادلة فُرضت بالقوة والإرهاب، مستغلّة، كما دائماً، الفتنة الطائفية ومنطق “فرّق تسد”.

 

 

 

وفي العام نفسه، حين تعرّض شباب الكتائب ومقاتلو الجبهة اللبنانية للتهجير من قراهم الشمالية إثر أحداث إهدن، وأُغلقت الطرق أمامهم بعد انتشار القوات السورية في المناطق المسيحية في شمال لبنان، وبعد أن أصبحت حوالى ثلث المساحة التي كانت سابقاً تحت سيطرة القوى المسيحية تحت السيطرة السورية، رغم كل ذلك، فتح الأب العنداري أبواب دير ميفوق “لثوار الشمال” ليكون ملجأ لهم. لم يكتفِ بإيوائهم، بل احتضنهم بروحه وعاطفته، تماماً كما فعل الأب فيليب الشدياق، فكانا معاً أبويْن روحييْن لشباب القضية اللبنانية، يمنحونهم القوة كما يمنحونهم الإيمان بعدالة معركتهم.

 

 

 

رافق الأب العنداري شباب ثكنة القطارة روحياً وفكرياً، من الدير إلى قيادة القوات اللبنانية، وحتى إلى زمن الاعتقالات والتهجير، إلى أن جاء زمن الحرية عام 2005، مؤمنًا بأن المقاومة ليست فقط بالسلاح، بل أيضاً بالإرادة والإيمان وبوضوح الرؤية.

 

 

 

التقيت الأب الياس للمرة الأولى عام 2002، خلال إحدى الجلسات التي جمعتنا صدفة، وأيضاً في جبيل، وكان الحديث عن ضرورة استكمال المواجهة ضد الاحتلال السوري. كانت تلك السنوات تشرف على المرحلة الأخيرة من الاحتلال، لكن المعركة كانت لا تزال طويلة، ولم يكن الجميع، على عكس الأب العنداري، مؤمناً بأن التغيير أصبح وشيكاً، وأن لبنان سيستعيد سيادته، وأن المحتل السوري خارج لا محالة. لم يكن مجرد متحدث، بل كان حاضراً في كل التفاصيل، يحثّنا على المقاومة، على التنظيم، وعلى عدم التهاون مع مشروع تفريغ لبنان من سيادته.

 

 

 

بعدها، توالت زياراتنا إلى الدير الذي يخدمه، الواقع في دير سيّدة النّجاة، بصّا – كفور العربة، ولم تنقطع حتى في أصعب الظروف، ودائماً كانت النقاشات تدور حول مستقبل لبنان، ودور الشباب، والكنيسة، و”القوات اللبنانية”.

 

 

 

إلى جانب دوره الوطني، لعب الأب العنداري دوراً محورياً في تطوير مستشفى سيدة المعونات في جبيل، حيث لم يكتفِ بكونه أحد مؤسسيه، بل سعى جاهداً لتحويله إلى مستشفى جامعي متكامل يقدّم خدماته لكل محتاج. كان يؤمن بأن دور الكنيسة لا يقتصر على الوعظ، بل يشمل العمل الدؤوب من أجل الإنسان، كرامته، وحياته.

 

 

 

ومع رحيله، يترجل فارس آخر من فرسان الكنيسة والمقاومة، لكن إرثه باقٍ. في كل حجر من دير ميفوق، في عقل وقلب كل مناضل حر، في كل غرفة من مستشفى المعونات، ومع كل من احتضنه بإيمانه، سيظل الأب الياس العنداري حاضراً، نوراً لا يخبو، وصوتاً لا يصمت.