IMLebanon

البحث عن لبنان المفقود

لبنان بحاجة إلى أن يكون موجوداً. جغرافيته واضحة ومحددة بدقة. حدوده معترف بها دولياً. دستوره مفصل ومُحْكَم ومكتمل. ومع ذلك، فهو مفقود، لا تستطيع أن تدل عليه. الطريق إلى معرفة الدولة، يمرُّ حتماً بالمؤسسات. «المؤسسات» أجهزة مصادرة. الطريق إلى الوطن تمر بالمواطن. «المواطنون» أصحاب ولاءات شتى ومشتِّتة للهوية والانتماء. سكان لبنان جالية برسم الارتهان. لم يحدث ذلك صدفة. كان الأمر مساراً. منذ البدء قيل: «لبنان قيد التأسيس». منذ البدء كان الكلام يدور حول «بناء الدولة». كلام يمحوه كلام، حتى مُحيت الدولة. مشكلة لبنان أنه ليس موجوداً، ولا بد أن يكون أحد قد سرقه، قد تملكه، قد صادره، قد استتبعه، قد وجده محطة، قد اقتسمه. ولا بدَّ أن الناس تعرف من فعل ذلك، منذ التأسيس الأول في عهد الانتداب، إلى التأليف التوليفي في زمن الميثاق، إلى تفتيت المفتَّت في زمن النفاق الذي شهر شعار «بناء الدولة» وهو يدكُّ أساساتها. لم يفعل ذلك فرد، بل كان فِعْلَةً شنيعة لقيادات سياسية، توارثت نفوذاً وحضوراً، مدعوماً دائماً، من قوى غير لبنانية، لا يعنيها أن يكون لبنان دولة، وكل همها أن يكون «ساحة» أو «جسر عبور» أو «جنة ضريبية»، أو رصيفاً يستقبل البضائع ويصدّر أبناءه، بضاعة يسميها «الطموح اللبناني إلى ما وراء البحار». شيء من الفينيقية الرثة.

لبنان راهناً، هو لبنانهم. الضمير يعود إلى القيادات السياسية الطائفية المالية المستحكمة والحاكمة، ولو هي خارج الحكم. مواقع الحكم مهجورة. السلطة ليست في الرئاسة المغيبة، ليست في «مجلس الوزراء» ولا هي في مجلس النواب. لبنانهم يقيم حيث هم، ومن حيث هم، يحكمون.

الدلائل صارخة. زعماء لبنان، راهناً، لا يتنازلون ليكونوا وزراء في حكومة. ينيبون عنهم وزراء برتبة موظفين فقط، ولو كانوا على المستوى الشخصي، ذوي سمعة علمية أو ثقافية جيدة. مجموع الوزراء ليسوا سلطة، بل منفذو رغبات ومصالح الزعامات الحاكمة من بعد في ما مضى، وتحديداً قبل اتفاق الطائف المغدور. تنافس زعماء لبنان على المشاركة في السلطة بأشخاصهم. عرفت حكومات لبنان كميل شمعون وزيراً بعدما كان رئيساً، كامل الأسعد وزيراً بعدما كان رئيساً للمجلس النيابي، كمال جنبلاط وزيراً بزعامة مؤكدة، صائب سلام مراراً، ريمون إده أحياناً. لم يكن انتسابهم ذاك تنازلاً. كانوا أصحاب نفوذ، أخذوا من الدولة اعترافاً بشرعيتهم السياسية والطائفية، ولم يأخذوا الدولة أسيرة لمواقفهم. أخذوا حصتهم من السلطة، من داخل المؤسسات. أسبغ هؤلاء «الشرعية الواقعية» على الشرعية الدستورية. وبمقدار مشاركتهم في السلطة الإجرائية، شاركوا في النصاب التشريعي عبر اللجان البرلمانية.

عُرفت تلك الحقبة، على علاتها، بأنها كانت الفترة الذهبية، «للديموقراطية التوافقية» تحت سقف الدولة، لا خارجها، كما هي الآن. فالاحتكام إلى الدستور كان أولاً، ومن ثم التوافق. اليوم، يتقدم «التوافق» المستحيل على موجبات الدستور. اليوم، يتقدم الزعماء على الدولة. الدولة باتت خارج مؤسساتها، مصادرة من الزعماء الكبار. واستردادها بحاجة إلى عملية تفاوضية مؤجلة، بين قطبين إقليميين: إيران والسعودية.

الجنرال عون يتحكم من الرابية. الحكيم، من معراب، يترأس المقاطعة. جزء من الدولة يقيم في الضاحية. جنبلاط الأب، ليس على سيرة أبيه، والابن القادم قريباً إلى البرلمان، لن يتنازل عن إرث الحكم من بعيد وبواسطة جيل جديد من البطانة الضرورية. سعد الحريري سعودي الإقامة، ومن هناك يتصرف. ولولا وجود بري في رئاسة المجلس، لكان اكتفى بـ «ملائكته» كي تمثله في الحكومة الخ…

السلطة في لبنان مقيمة خارج مؤسساتها، في الضاحية والرابية ومعراب وكليمنصو والسعودية (وأحياناً بيت الوسط) وعين التينة. تمام سلام ليس حاكماً، ولو أن جزءاً من صلاحيات الرئاسة قد آلت إليه. هو يترأس جلسات مسموحة، قرارها يأتي من «عواصم لبنان المذهبية». تمّام سلام حاكم لا يحكم. الوزراء، كل الوزراء، لا يحكمون. ينفذون الأوامر التي تأتيهم من خارج المجلس ومن خارج المؤسسات. شيء من الأمانة الوظيفية، يتمتع بها مجلس وزراء، برسم الإيجار.

ولأن التعطيل هو القاعدة، ولأن الأزمات تتتالى، وجد من اخترع مكاناً موسمياً، يجمع فيه «أركان السلطة» المهاجرة، في جلسات حوار، تطرح فيها موضوعات للنقاش، فتتحوّل إلى سجال. باتت جلسات الحوار هي المرجع الحاكم، وفي الوقت نفسه، المانع للحكم. يصادر مجلس الوزراء، لمصلحة العطالة. نوع من الدوران في الفراغ. كل ما لا يجد حلاً في اللجان النيابية، يرفع إلى «مقام السلطة العليا الفعلية» في جلسات الحوار، لاتخاذ القرار. الفشل مبرم. أصحاب القرار بلا قدرة على إنتاج قرار خاص بقانون انتخابات جديد. معيب إلى درجة الفضيحة أن تستمر سلطة الأمر الواقع في تفضيل العجز والدفاع عنه. تعيد إلى اللجان أمر الدوران الدائم حول قانون انتخابات جديد، الجديد فيه، «العدالة الطائفية» التي تفترض حتماً، «الظلامة الوطنية».

البحث عن لبنان يفضي إلى تحديد مكان إقامته. لبنان ليس مقيماً في مؤسساته ولا في دستوره ولا بين أبنائه من المواطنين. لبنان الدولة، الذي أوكل إليه أن يرعى الطوائف ويوازن في ما بينها عبر محاصصة «عادلة» ونادرة، ومشاركة سياسية مرضية، تحوَّل بعد «اغتصاب الطائف» إلى دويلات بعواصم مختلفة. دويلات محكومة فعلاً بمتحكمين. بادعائهم تمثيل «الشرعية» المذهبية والطائفية. خريطة الدويلات معروفة بزعاماتها وليس بحدودها الإدارية، محافظة وقضاء. فزعماء الطوائفيات عابرون للحدود الإدارية، وعابرون لحدود لبنان الدولية، وصولاً إلى الرياض واليمن وبغداد وسوريا وإيران و… الآتي أعظم.

في أمكنة كثيرة من لبنان المفقود، من يؤمن ويعمل على انتزاع الدولة من الدويلات. لم تبدأ المعركة بعد، لانخطاف الكثيرين إلى المعارك الهوائية التي تخاض بين زعماء الدويلات، وهي معارك مثيرة وحساسة وخطيرة ولا تفضي إلا إلى المزيد من الخسائر.

هل نيأس من لبنان هذا؟ طبعا. لا حلول ترجى من عواصمه الداخلية. الأمل معقود على مآلات الحروب والمصالحات الإقليمية. من هناك سيأتي لبنان الجديد، وقد لا يكون جميلاً.