اختتم إيمانويل ماكرون معركة رئاسة الجمهورية الفرنسية بفوزه على مرشحة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة٬ بفارق أصوات كبير لم يكن منتظراً٬ وعلى الرغم من امتناع ملايين الناخبين عن التصويت أو إدلائهم بأوراق بيضاء.
كيف استطاع ماكرون الانتقال من موظف في بنك٬ إلى مستشار للرئيس هولاند٬ ثم إلى وزير للاقتصاد في أقل من سنتين٬ إلى الانطلاق في حملة سياسية وانتخابية أوصلته إلى رئاسة الجمهورية وهو دون الأربعين من عمره٬ ولا يساند ترشيحه حزب حاكم أو عريق من الأحزاب التي حكمت فرنسا منذ نصف قرن؟… ذلك سؤال ما زال يطرح دون أن يعطي طارحوه أجوبة واضحة أو قاطعة عليه.
لم يكن الفرق كبي ًرا في الدورة الأولى بين المرشحين الجديين الأربعة (لوبان٬ ميلنشون٬ فيليون٬ وماكرون) إذ دار بين 20 و23 في المائة. ولكن نتائج الدورة الأولى تكشفت عن تراجع الحزبين الجمهوري والاشتراكي اللذين حكما فرنسا منذ عقود وعن رغبة الفرنسيين في التغيير والتعبير عن سخطهم ومخاوفهم ونقمتهم على عجز الحكم عن معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تعاني منها البلاد. وتجلى هذا السخط أو هذه الرغبة في التغيير في انصباب الأصوات على مرشح اليسار الراديكالي ميلنشون ومرشحة اليمين المتطرف لوبان. ودفع مرشح اليمين الوسط المعتدل٬ فيليون٬ ثمن الخطأ الذي ارتكبه بصرف تعويضاته النيابية إلى زوجته.
ثمة عوامل سياسية أخرى مهمة٬ غير رغبة الشعب في التغيير٬ لعبت دورها في هذه الانتخابات٬ وأهمها البقاء أو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي٬ وسياسة مقاومة الإرهاب٬ وسياسة فرنسا الخارجية٬ وبطبيعة الحال «شخصية» المرشحين. ولقد استفاد ماكرون – وميلنشون أي ًضا من هذا العامل٬ بينما خسرت مرشحة الجبهة الوطنية لوبان كثيراً٬ من جراء اتباعها أسلوباً غير لائق في التهجم الشخصي على منافسها ماكرون٬ في المناظرة التلفزيونية التي جمعت بينهما٬ بينما ترفع هذا الأخير عن مجاراتها في حملة «توسيخية» مشابهة٬ مما زاد في احترام المواطنين له.
في النتيجة مرت الانتخابات الرئاسية الفرنسية بسلام وانتصر الاعتدال ورغبة التغيير فيها على التطرف والسلبية. إلا أن الستار لم يسدل على المسرح السياسي الفرنسي بعد وصول ماكرون إلى قصر الإليزيه. فالرئيس الجديد ليس له حزب يسانده في الحكم ولا أكثرية نيابية تقر مشاريعه الإصلاحية٬ لا سيما أن الانتخابات النيابية سوف تجرى بعد شهر.
كثيرون بين السياسيين التقليديين في أحزاب اليمين الجمهوري والوسطيين هم الذين أعربوا عن استعدادهم للتعاون مع الرئيس الجديد٬ ولا شك في أنه سوف يستعين ببعضهم.
ولكن المحك هو في نتائج الانتخابات النيابية المقبلة قريباً ولون أو ألوان الأكثرية النيابية الجديدة. ولا يستبعد البعض إقدام الرئيس الجديد على تكوين أكثرية نيابية موالية له.
إن نتائج الانتخابات الفرنسية٬ بعد فوز ترمب في الانتخابات الأميركية٬ أكدت رغبة الشعوب في الدول العريقة الديمقراطية٬ في التغيير. لا حباً بالتغيير فقط٬ بل تعبير عن سخطها على الأحزاب السياسية التي تعاقبت على حكمها٬ ولم تنجح في توفير ما تريده من استقرار اقتصادي واجتماعي٬ ولا سيما في الملف الأمني٬ وخصوصاً قطع دابرالإرهاب. هذا مع العلم بأن التغيير الجذري في الدول العريقة الديمقراطية ليس سهلاً٬ وأحياناً ليس ممكناً .لا سيما أن عملية التغيير الجذري تتطلب حكماً سلطوياً وقوانين قاسية٬ مما لا تتقبله الشعوب الحريصة على حريتها وحقوقها الإنسانية وديمقراطيتها ومكاسبها الاجتماعية. ناهيك بأن مصائر الشعوب والدول باتت في عصرنا العالمي مترابطة٬ ومن الصعب جداً على أي دولة٬ كبرى أو صغرى٬ ممارسة سياسة الدفاع عن مصالحها دون مراعاة الأوضاع الدولية الراهنة٬ ومصالح الدول القريبة أو البعيدة عنها.
لم يستجب الشعب الفرنسي إلى أصوات المتطرفين يميناً أو يساراً٬ بل اختار الوسطية على الشعبوية٬ والاتحاد الأوروبي على التعصب القومي٬ والانفتاح على العالم بدلاً من الانعزال٬ وحسناً ما فعل.
فخياره أضمن لمصلحته ولمصلحة الأمن في بلاده والسلام في العالم٬ وبالنسبة لعلاقة فرنسا بالعالمين العربي والإسلامي.