IMLebanon

عاشق الحرية

 

ليس جميع الذين حجّوا الى بكركي في اليومين الماضيين، والذين سيتوجهون إليها اليوم، وخصوصاً غداً الخميس، وفي الأيام الآتية… ليسوا جميعاً من الذين يحبّون المثلث الرحمة الكاردينال البطريرك مار بطرس نصر الله صفير… ولكنهم، جميعاً، يقدرون فيه الميزات العديدة التي قلنا ونكرر إن شخصيته الفريدة الفذّة قد اكتنزت بها.

 

تحبه أو لا تحبه فأنت لا تستطيع أن تنكر أنه قامة استثنائية في الإكليروس وفي السياسة التي لم يذهب إليها ولم يستدعها، إنما هي التي ذهبت إليه تارة تستريح في أفيائه وطوراً تحاول ضرب بنيانه المعنوي والسياسي بالكثير من المعاول.

 

صاحب الجسم النحيل الصغير شكّل طوال ولايته البطريركية قامة وطنية كبرى تحوطها هالة لم ترتسم عبثاً فقد رسمتها مواقفه السياسية والوطنية المتعاقبة، وصموده النموذجي، وعناده في الحق وفي ما يعتبره حقاً، وثباته على المبادئ والقيم المسيحية والإنسانية، وتمسكه بلبنان العيش المشترك وكأنه ليس فقط «حارس الذاكرة» إنما حارس الوطن الذي لم يتخلّ يوماً عن يقينه بأن قيامته آتية مهما طال الزمن، وما بقي فيه من يحمل المشعل لينتقل من جيل إلى جيل. وفي هذا السياق كثيراً ما كان يرددها أجدادنا وآباؤنا واجهوا صعوبات أكبر، ومآسي أشدّ فظاعة، وأحداثاً أكثر هولاً (…) ومع ذلك تجاوزوها وعبروا الى لبنان الذي بنوه ملاذاً وقيمةً وفرادةً في العيش متعدد الثقافة في إطار الوحدة.

 

ولعلّ أبرز ما تميزّ به المثلث الرحمة نيافة الكاردينال صفير التزامه المتين الراسخ القوي الثابت بالحرية «تحت سقف القانون».

 

وفي حوارات معه كان يتحدّث عن الحرية كأنه عاشقها الأوحد. شهد لها في كل مناسبة اقتضت شهادته، ودافع عنها كل مرّة شعر بأن  هناك تحاملاً أو اعتداءً عليها. وعندما كان يقول إن لبنان والحرية صنوان لم يكن يتلو كلاماً تتغرغر به الشفاه إنما كان يتلو فعل إيمان عميق. هو الذي دافع عن العيش المشترك بلغ به عشقه الحرية أن قال: «لو خيّرنا بين الحرية والعيش المشترك لاخترنا الحرية». وكان جازماً في ذلك.

 

فلبنان من دون الحرية ليس «لبناننا». والحرية تكون مقرونة بالكرامة.

 

هكذا كان غبطة البطريرك صفير يفهم معاني الانتشار الماروني في  ذُرى الجبال وأعماق الوديان. وهذا ما كان لا يتردد في «شرحه» لكبار العالم الأمميين والدوليين الذين كان يلتقيهم ليقول لهم إن الوجود المسيحي الحرّ في لبنان ليس مجرّد حفنة من الناس بين مئات الملايين إنما هو شهادة حيّة على حريةٍ لم تأتِ هبة من أحد إنما كانت استحقاقاً دفع المستحقون في سبيله أغلى الأثمان وبذلوا أرفع التضحيات وأسخاها.

 

غداً يوارى جثمانه الطاهر في الثرى الذي أحبّ كل ذرّة منه. وهو سيرى، من عليائه، الى الدفق البشري الكبير الذي سيواكب مراسم الدفن. بماذا سيشعر أمام المشهد الرهيب؟ وماذا سيحدّث نفسه تعليقاً عليه؟!

 

لست أدري. فقط أعرف أنه سيصلي ويتضرّع الى الله سبحانه تعالى ألاّ يميل بوجهه عن لبنان.