IMLebanon

هل أضاع اللبنانيون التوق إلى الحرية؟

 

 

يبدو أن المرجعيات وقادة الرأي والفكر في لبنان، من هم في سدة الحكم أو موقع المعارضة، يجمعون على أن الأزمة غير المسبوقة التي يعيشها الوطن لم تعد أزمة حكومة أو نظام وحسب، بل باتت أزمة كيان وجودية عاصفة تهدد معناه، ورسالته، كما عرفناه، وهو على أعتاب الذكرى المئوية لإنشائه في عام 1920.

في الأساس، بدأت الأزمة سياسية بين اتجاهين، يمكن أن نصف الأول أنه أقرب إلى الرؤية المدنية الليبرالية، ويدعو إلى حماية الحريات الفردية والدستورية، ويتمسك بالسيادة الوطنية والاستقلال، والثاني له مفهومه الخاص للسيادة بربطها بولاءات عابرة للكيان، وباعتبارات غير ليبرالية، ولا دستورية، لحرية الفرد، ولمعنى الاستقلال، وهو مرتبط بمحور إقليمي له رؤيته المغايرة للنموذج اللبناني، بل يسعى لإسقاطه وضمه. لكن هذه الأزمة بدأت في الآونة الأخيرة تتحوّل من أزمة تتعلق بالمواضيع السيادية والاستقلالية، وطبيعة العلاقات مع الخارج أو المحاور، إلى أزمة تطال الاقتصاد والمال والمصارف.

في الواقع، ليست الأزمة الاقتصادية المالية التي يتخبط بها لبنان راهناً وليدة الأمس، مع أنها انفجرت أسرع مما كان متوقعاً لها مع انطلاقة انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، وفاقمتها جائحة «كورونا»، والاضطرار إلى اتخاذ إجراءات وتدابير مختلفة، بما فيها إقفال المؤسسات الخاصة.

إن جذور الأزمة الاقتصادية – المالية هذه ممتدة وضاربة في تراب الأداء السياسي الذي اعُتمد في لبنان منذ الاستقلال، أو أقله بعد انتهاء الحرب الأهلية، وليس منذ 30 عاماً (أي فترة وصول الرئيس رفيق الحريري إلى الحكم)، وحسب كما يدعي كثيرون، مروراً بزمن الوصاية السورية الذي أعقب هذه الحرب وحتى عام 2005؛ تاريخ إخراج الجيش السوري من لبنان، وصولاً إلى الأمس القريب. لقد طُبعت الممارسة السياسية في شتّى الحقب بضعف وهزال في الحوكمة وفساد وسوء إدارة وهدر وزبائنية فاقت كل تصور، وبلغ الانهيار الاقتصادي حداً خطيراً طال الطبقات والشرائح الاجتماعية اللبنانية كافة، لكنّ الأخطر يبقى مساسه بالطبقات المتوسطة التي باتت ثرواتها وودائعها وجني العمر في المصارف مجرد أرقام دفترية لا تستطيع الإفادة منها.

الحال أن فقدان تلك الطبقة لثرواتها ومقدّراتها جرّاء الأزمة المالية الاقتصادية المستجدة يهدد في الواقع روح الاجتماع اللبناني، الذي كان سائداً من نشوء الكيان وحتى اليوم. فالضربة التي تعرّضت لها هذه الفئة المحورية للاستقرار والسلم الأهلي على الصُعد كافة، في الحياة والاقتصاد وطريقة العيش، سوف تنسحب حكماً على قطاعات اقتصادية رئيسة أخرى كوّنت معنى لبنان الذي عرفناه. فعلى سبيل المثال، لن يكون المنتمون إلى هذه الطبقة الاجتماعية المتوسطة قادرين بعد اليوم على إرسال أولادهم إلى مدارس خاصة ذات مستوى متميّز ومتطوّر، ولا إلى جامعات خاصة لطالما لعبت أدواراً مهمة في صوغ لبنان كمنارة علمية وثقافية، ولن يكونوا أيضاً قادرين على تلقي مستوى الاستشفاء، كما في السابق، ولا على المساهمة في قطاعات البناء والسياحة والخدمات وغيرها، وهو ما يمسّ في الحقيقة بروحية الاجتماع اللبناني، وطبيعته، ويصبّ تالياً في صالح المشروع السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي يهدف إليه الفريق اللبناني المرتبط بمحور إيران وحلفائها في الإقليم، أو ما يُعرف بالفريق الممانع، وهنا بيت القصيد.

حيال هذا المشهد، وهذه المخاطر، بل هذا الانهيار الذي بات حتمياً، يتساءل المرء عن أسباب غياب قوى معارضة سيادية وديمقراطية، تحاول التصدي لهذا المشروع الذي يهدد بإسقاط البلد وكيانه، أو أقله تطرح بدائل ورؤى ومشاريع مقابل ما يطرح من قبل الحكم والحكومة ومن وراءهما.

قد يأتينا الجواب فوراً أن هناك انتفاضة بدأت في 17 أكتوبر، وهي تطالب بنسف كل البنية السياسية المسؤولة عن الانهيار وتغييرها، وقد يكون هذا الأمر صحيحاً. لن ندخل الآن في تقييم هذه الثورة، ولا في استشراف آفاقها، مع أنها بدأت تأخذ منحى آخر في الأسبوعين الماضيين، وكأنها اختلفت في طبيعتها، وفي أهدافها، عن الثورة التي انطلقت، أو أنها جنحت نحو العنف بسبب تفاقم الجوع والبؤس، كما يقول البعض. لكن في المحصلة، وعلى ضوء تجربة الأشهر الستة الماضية، تبين أن الانتفاضة تحتاج إلى رافعة قيادية سياسية لطالما رفضتها غالبية المنتفضين، ورفضت حتى المهادنة مع القوى السياسية الموجودة في المعارضة اليوم، باعتبار أنها كانت في الحكم، وتتحمّل مسؤولية ما وصلت إليه البلاد بالقدر نفسه الذي تتحمله القوى الحاكمة راهناً. وقد يكون هذا الطرح صحيحاً، لكنّ الواقعية السياسية تفرض من المنتفضين، إما التعاون مع المعارضة السياسية الموجودة، أو العمل بانفراد، لكن من دون أن يدين أو يلغي أحدهما الآخر.

وإذا تركنا قوى الانتفاضة، وشأنها، التي قد يكون لها مسارها الخاص، نسأل بإلحاح عن سبب عدم تشكل جبهة معارضة وازنة ومتماسكة، علماً بأن كلّ مكوّناتها موجودة بمعزل عن قوة فائض السلاح الموجود لدى «حزب الله» وحلفائه، وهي تمثل شرائح معتبرة، سواء عند الطائفة السنية (تيار المستقبل) والمسيحية (الكتائب والقوات اللبنانية) والدرزية (الحزب التقدمي الاشتراكي)، بالإضافة إلى المستقلين، فتكون قادرة على الضغط من أجل الخروج من دوّامة هذه الأزمة المتفاقمة، أو في الحدّ الأدنى الوقوف بجرأة في وجه الفريق الذي يمسك به «حزب الله» و«قوى الممانعة» الإقليمية، عبر لغة وطنية واضحة ومفهومة تتلقفها قطاعات شعبية واسعة وعدد من الدول الأجنبية والعربية الحريصة على السلم والحريات، وتسمعها، وتستند إليها في أي محاولة لدعم لبنان.

فإذا كانت القوى المعارضة على تنوعها، تدرك وتقرّ وتتحسس المخاطر المحدقة بلبنان، التي يتحمّل مسؤوليتها «فريق الممانعة»، فلماذا يا تُرى تقف مستسلمة، واهنة، غائبة، متخبطة بلعبة خلط الألوان كي تبقى الصورة رمادية وتتبدد الحقائق؟ لماذا، على سبيل المثال، يتوّسل البطريرك الماروني بشارة الراعي، لغة غير حاسمة، على غرار دعم حاكم مصرف لبنان، وفي الوقت نفسه دعم الحكم والحكومة من قصر بعبدا؟ كيف نفسر كلام رئيس حزب «القوات» سمير جعجع، أنه يحاسب هذه الحكومة على القطعة، أو القنابل الصوتية للزعيم الدرزي وليد جنبلاط، أو ممارسات الرئيس سعد الحريري منذ التسوية الرئاسية، واقتصار انتقاداته اليوم على «حليفه السابق» جبران باسيل، متناسياً دور المايسترو «حزب الله»؟ فهل من خلافات آيديولوجية فكرية تحول دون تحالفهم، أم أن المصالح الشخصية الضيقة وقصر النظر هي السبب؟

في الحقيقة، تعرف قوى المعارضة أنّ لبنان لا يمكن أن يُحكم بالسلاح، بل يُحكم بتسويات معقولة متوازنة، للوصول إلى التوافق، وأن خلق توازن داخلي في العلاقة بين السلطة والمعارضة هو الوصفة الوحيدة القادرة على إعادة الثقة بلبنان، ولو جزئياً، فيتأكد العالم أن هذا الوطن لم يقع نهائياً، وبشكل دائم، تحت سطوة أو إرادة «حزب الله».

لعل اللبنانيين أضاعوا التوق الذي اشتهروا به إلى الحرية، وخمدت رغبتهم، وتلاشت إرادتهم في أن يكونوا أسياداً وأحراراً، وقد يكون هذا الجواب المحبط هو الأكثر رجحاناً للأسباب التي تحول دون تشكّل هذه الجبهة.