لا شكّ أنّ الخطوة الأساسية لاستعادة سلطة الدولة في لبنان تمرّ عبر حلّ معضلة التعايش بين مؤسسات الدولة والميليشيا المسلّحة، أي عبر نزع سلاح “حزب الله”. غير أنّ هذا السلاح، ما دام يُوصَف بأنه “سلاح الله”، وفقًا للمفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، فإننا أمام معضلة تكاد تحتاج إلى شفاعة معجزية أو إلهية لحلّها. والأدهى أنّ “حزب الله” يرفض الالتزام بالروزنامة التنفيذية لتسليم سلاحه، المُقرّرة أن تنتهي في 31 كانون الأول المقبل، مُطلقًا شروطًا شبه مستحيلة للتفاوض، تضمن بقاء الملف مطروحًا على الطاولة من دون أن يرى النور. وبمعنى آخر: النقاش مُستمرّ، والسلاح باقٍ.
وبدلًا من التعامل مع نزع السلاح كاستحقاق قانوني أو سياسي واضح، يُصرّ “حزب الله” على إدراج القضية ضمن إطار أوسع يُعرف بـ”استراتيجية الدفاع الوطني”، مستفيدًا من الغموض التاريخي الذي أحاط بهذا المفهوم، والذي أتاح له دائمًا التهرّب من أي مطالب مباشرة بنزع سلاحه.
من جهة أخرى، ومن منطلق نظرية الألعاب (Game Theory)، فإن الجمود الذي وصل إليه لبنان في مجال نزع السلاح كان أمرًا متوقعًا. فـ “حزب الله” يكسب المزيد بالبقاء مُسلّحًا، في حين تتجنب الحكومة المواجهة المُكلفة من خلال استيعاب هذا الواقع. والنتيجة هي توازن متوتّر لكنه مُستقرّ: الوضع الراهن مُستمرّ لأن أيًا من الطرفين لا يستفيد من تحدّيه الآخر.
لكن، لنفترض أفضل السيناريوات، مُعتبرين أنّه من الممكن التوصّل إلى تسوية بشأن السلاح. عندها يبرز سؤال آخر لا يقلّ تعقيدًا عن مُعضلة السلاح، وهو مصير آلاف المقاتلين: هل يُمكن استيعابهم داخل صفوف الجيش اللبناني كما سبق أن طُرح؟
في هذا السياق، عرض الرئيس جوزاف عون، في مقابلة مع صحيفة “العربي الجديد” بتاريخ 15 نيسان 2025، رؤيته لكيفية دمج عناصر “حزب الله” في الجيش، حيث قال بوضوح: “لن يحصل أي استنساخ لتجربة الحشد الشعبي العراقية في لبنان، ولن يُنشأ ضمن الجيش اللبناني أي تشكيل مُستقلّ من مقاتلي “حزب الله”، بل يمكن لعناصره الالتحاق بالجيش والخضوع لدورات استيعاب”. وقد تناقلت هذه المقابلة لاحقًا عدة وسائل إعلامية، من بينها “القدس العربي” و”الشرق الأوسط” (21 نيسان 2025)، وL’Orient-Le Jour، ووكالة AP.
بالنسبة لموقف الرئيس نواف سلام، فقد أكّد بدوره لصحيفة The Washington Post أنّه “تجرى مناقشات حول دمج مقاتلي “حزب الله” في الجيش الوطني، على الرغم من أنّ هذا يُثير مخاوف قيادية وبنيوية”. أما صحيفة El País الإسبانية، فقد وصفت فكرة التكامل بأنها تنبع من مداولات مستمرّة وليست خطوة سياسية رسمية من جانب رئيس الوزراء.
وفي هذا الإطار أيضًا، برزت وثيقة مُسرّبة أثارت جدلًا واسعًا، زُعِم أنّها صادرة عن مركز أبحاث مرتبط بالحرس الثوري الإيراني، تقترح إنشاء “حرس وطني لبناني” بإشراف الدولة. وبموجب هذه الخطة، ينضمّ مقاتلو “حزب الله” مع أسلحتهم وقيادتهم إلى هذا النطاق الرسمي، على أن يُدمَجوا تدريجيًا في مؤسسات الدولة تحت سلطة الرئاسة ومجلس الوزراء. خطوةٌ بدت أقرب إلى محاولة لإضفاء الشرعية على نفوذ “حزب الله” العسكري عبر القنوات الرسمية، بدلًا من تفكيكه.
يمكن تقييم مُقترحات دمج مقاتلي “حزب الله” في الجيش اللبناني أيضًا من زاوية نظرية الألعاب (Game Theory)، حيث يسعى كل طرف إلى تعظيم مكاسبه ضمن قيود مُعقّدة.
بالنسبة لـ “حزب الله”، يُشكّل الاندماج فرصة لتحقيق شرعية مؤسسية إضافية، والوصول إلى موارد الدولة ومعلوماتها الاستخباراتية، ما يزيد عوائده (payoffs) على المدى القصير. لكن في المقابل، يواجه مخاطر استراتيجية، أبرزها فقدان استقلاليته التدريجية وتآكل سلطته إذا خضع عناصره لتسلسل القيادة العسكرية اللبنانية.
أما الدولة، فترى في هذا الدمج آلية مُحتملة لتحويل اللعبة من معادلة صفرية (Zero-Sum Game)، حيث يكون مكسب طرف خسارة للطرف الآخر، إلى لعبة غير صفرية (Non-Zero-Sum Game) تُتيح لها تقليص قوة “حزب الله” مع الحفاظ على الاستقرار الداخلي. غير أنّ هذه المعادلة تظل هشّة، إذ إن أي اختلال في التوازن أو غياب رقابة مؤسسية صارمة قد يقلب اللعبة مُجددًا إلى مسار صفري يُعزّز نفوذ “حزب الله” بدلًا من إضعافه.
في المحصّلة، تعكس فكرة دمج مقاتلي “حزب الله” في الجيش محاولة غير مسبوقة للجمع بين مطلب السيادة الوطنية وواقع هيمنة الميليشيا. غير أنّها أشبه بـ”حصان طروادة”، إذ تبدو في ظاهرها خطوة لتعزيز وحدة الجيش وترسيخ سيادة الدولة، لكنها، فضلًا عن انعكاساتها الخطيرة على التوازن الطائفي والسياسي، تحمل في طيّاتها احتمال تسلّل ولاءات حزبية خفيّة تُعيد صياغة ميزان القوى من الداخل. تمامًا كما أخفى الإغريق جنودهم داخل الحصان الخشبي لاختراق أسوار طروادة.
وكما في الأسطورة، حيث انخدع الطرواديون بالسرد المُضلّل ورغبتهم في إنهاء الحرب، قد يجد بعض اللبنانيين في فكرة الدمج طريقًا للحل، بينما تخفي في الواقع ديناميات تُعيد إنتاج سطوة الميليشيا داخل مؤسسات الدولة. وهكذا تتحوّل الخطوة إلى آلية تُبقي لبنان أسير وَهم السيادة، بدلًا من استعادتها فعليًا.