IMLebanon

خمسون عاماً تثمر نصراً

 

 

منذ أكثر من خمسين عامًا ولبنان يعيش على خطّ فاصل بين مشروعين: مشروع الدولة ومشروع الدويلة. آلاف الشهداء، مئات المعتقلين، وعشرات الآلاف من المهجّرين، جميعهم دفعوا ثمن خيار السيادة، خيار الدولة الفعلية. من اتفاق القاهرة عام 1969 الذي شرعن السلاح الفلسطيني على أرض لبنان فبدأ مسلسل انهيار السيادة، إلى الاحتلال السوري سنة 1976 الذي وضع اليد على القرار اللبناني، مرورًا بالوصاية الإيرانية عبر “حزب الله”، ظلّت الدولة اللبنانية مشروعًا يقاوم، فيما كانت الدويلة تتمدد تحت عناوين “المقاومة” و”الحماية” وتُخفي في طيّاتها اختطاف الكيان كله.

 

في خطابه الأخير في معراب، لم يكن الدكتور سمير جعجع يوجّه كلامًا سياسيًا عاديًا، بل رسالة وجدانية تختصر نصف قرن من الدم والدموع. خاطب الشهداء كما لو كانوا أحياء بيننا: “عامًا بعد عام، وفي هذا المكان بالذات، كنت أقول لكم: ناموا قريري العين. لم يكن القصد أن تناموا، بل أن تطمئنّوا إلى أننا على العهد باقون حتى تتحقق الأهداف التي من أجلها استشهدتم. البعض ظنّ هذا الكلام مجرد رفع معنويات في السنوات الصعبة، لكن ها نحن اليوم نلتقي وقد تأكد المؤكد: دماؤكم لم تذهب هدرًا، والتضحيات أثمرت دولة وسيادة”.

 

ومن هذا البعد الوجداني انتقل جعجع إلى قراءة المسار كله: خمسون عامًا من نضال لم ينقطع، شهداء قوافل قوافل، اعتقالات وملاحقات، اغتيالات وتهجير، وصمود في وجه الاحتلال والوصاية والسلاح غير الشرعي. قالها بالفم الملآن: “تجرأنا حيث لم يجرؤ الآخرون ليبقى لبنان وتبقى الحرية والسيادة”. وأكد أن أحلام خمسين عامًا قد تحققت دفعة واحدة، وأن الحجارة التي رُذلت بالأمس صارت حجارة الأساس للبنان الغد. في هذه اللحظة المفصلية، اعتبر جعجع أن لبنان دخل مرحلة جديدة، حيث انتصر الخط التاريخي للدولة على خط الدويلة، وأنّ المواجهة المستمرة أثمرت انتصارات كاملة في كل الاتجاهات، لأن ما يصحّ في النهاية هو الصحيح.

 

بهذا النفس الوجداني، وضع جعجع النقطة على السطر: لا دولة بوجود سلاح خارجها، ولا حماية للبنان إلا بجيش واحد وسلاح واحد. سلاح “حزب الله” لم يحمِ لبنان بل جرّ عليه الخراب والحروب والتهجير، ولم يردع إسرائيل بل استُخدم كورقة إيرانية. ليست المشكلة مع طائفة بعينها، بل مع واقع أن الدولة مخطوفة من قوة مسلّحة فوقها. ومن هنا جاءت دعوته الصريحة للشيعة أن يفكّوا أسرهم من هذا السلاح ويعودوا إلى منطق الدولة العادلة التي تحمي جميع أبنائها بلا تمييز.

 

في المقابل، يطلّ المفتي أحمد قبلان بخطاب يزدان بالكلمات الكبيرة عن الطائفة اللبنانية والفساد وأزمات النظام. يتحدث عن دولة يريدها جامعة للبنانيين وكيانًا غير طائفي، لكنّه يتعمّد الصمت عن أصل الداء: السلاح غير الشرعي الذي يدمّر الدولة. يهاجم الانتهازية السياسية والفساد، لكن خطابه يتحوّل إلى غطاء يبرّر استمرار منطق “حزب الله”. فالمشكلة عنده في عيوب النظام، لا في وجود دويلة مسلّحة داخل الدولة. وهنا يكمن الفارق: جعجع ينطلق من وجدان تاريخي وتجربة عملية ليقول إن الدولة وحدها هي الحل، فيما قبلان يعيد إنتاج خطاب المقاومة والطائفة، ليبقي السلاح خارج الدولة ويحوّل الدولة إلى قشرة فوق دويلة.

إنها معركة واضحة بين منطقين: منطق الدولة الذي بُذل من أجله الدم والحرية والتهجير، ومنطق الدويلة الذي يحاول أن يختبئ خلف شعارات الطائفة والفساد. ولبنان لن ينهض بالوعظ عن الفساد ولا بتعداد عيوب النظام، بل فقط باستعادة الدولة قرارها وسلاحها. عندها فقط تُبنى مؤسسات ويُحاسب فاسدون ويُصان العيش المشترك. ولهذا تبقى كلمة جعجع بيت القصيد: إمّا دولة فعلية بسلاحها الواحد، وإمّا لا دولة على الإطلاق. والتضحيات التي رُسمت بالدم والاعتقال والتهجير على مدى نصف قرن لم تذهب سدى، بل هي التي صنعت هذا التحوّل الذي يشهده لبنان اليوم.