IMLebanon

عاد الجنرال فهل تعود الدولة؟

انتقل لبنان إلى الضفة الأخرى. انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً، بالميثاقية المبرمة، غيَّر قواعد اللعبة السياسية: «لا طائفة مهيمنة… كل الهيمنة لكل الطوائف». غير مسموح الاستئثار أو الاستقواء أو الاعتداء أو الاستبعاد. فلتأخذ كل طائفة «مكوّنة» للكيان والسلطة، حصتها التي تتناسب وحجمها، من دون إخضاع المناصفة للعدّاد السكاني.

«الميثاقية المبرمة» تختلف عن الميثاق الوطني الأول: «لا شرق ولا غرب، لا حماية ولا وحدة». هذه مشكلات لا طاقة للميثاقية المبرمة على حلّها. لكل طائفة سياسة خارجية خاصة. المدى العربي مشرّع للولاءات والسياسات الخارجية. المدى الديني ميدان تتنافس وتتصارع فيه الطوائف والمذاهب، واللبنانيون شركاء أقحاح في الصراعات والمحاور والحروب. هناك حق شيعي مكتسب: لا انفكاك عن إيران، سياسة وفقهاً وثقافة ودعماً. هناك حق سنّي دائم: لا مواربة مع السعودية، سياسة ودعماً واحتواءًَ… الآخرون، دروزاً ومسيحيين، يعيشون حيرة التوجّه. ضياعهم الخارجي، لفقدان التماثل أو التشابه المذهبي والديني. ستظل السياسة الخارجية في لبنان على مفترق القلق بين الرياض ومَن معها وإيران ومَن معها. لبنان، ملتقى الحضارات كما يُقال، صار ملتقى الصراعات، مع فضيلة بيّنة قضت بأن لا يكون الميدان في لبنان. بهذا يشبه لبنان المنقسم خارجياً معظم دول المشرق العربي. مثل هذه المعضلة فوق طاقة العهد على إيجاد حلّ لها. الرئيس ملزم بالتعامل معها عبر التعامي عنها، والتعويض بالإنشاء والبلاغة الديبلوماسية.

لا يستطيع العهد الجديد أن يجترح دولة على سياسات طوائفها. سيكون لبنان المقاوم اختصاصاً شيعياً، بامتدادات سورية وإيرانية وحوثية وبحرينية. وسيكون اختصاص لبنان السعودي ـ الخليجي، اختصاصاً سنياً. تتقاسم الطوائف وظائف الدولة الخارجية، وتحتفظ الدولة بالحياد.

مشهد من عجائب السياسة. هو غير مسبوق. هو غير وارد في أي نظرية للدولة ووظائفها. لبنان الطوائف المبرمة، ألغى اللاءين الميثاقيتين المؤكدتين منذ مطلع الاستقلال. لبنان راهناً هو الجبهة الخلفية الساخنة لحروب القوى في الإقليم. أي خطوة لا تلتزم بهذا التقسيم، تُقسِّم البلد وتقوده إلى الفتنة. النأي بالنفس حكومياً خدعة مفيدة.

انتقال لبنان الطائفي إلى الضفة الأخرى فتح الباب للتعادل المذهبي. الانقسام فضيلة الطائفية الأولى. أمّنت فرصة انتخاب عون رئيساً التعادل الطائفي. تساوت الطوائف بالاعتراف الواقعي، بالممثّلين الشرعيين لكل طائفة. ظهر الاعتدال في الخطاب الرئاسي في البيان المجلسي الذي تلاه بري. أظهرت التصريحات تسامحاً وتنافساً في التهدئة والتعويل على المشاركة. هبطت نبرة التحدّي. هجر الجميع لغة الاتهام. لم يعُدْ أحد يتذكّر المعارك الكلامية التي كانت قد بلغت التخوين المتبادل. ليس هذا ماضياً مضى، المستقبل مفتوح على جديده. لا يعرف مدى متانته لبنان الجديد. سيكون أصعب من لبنان القديم، حيث لا إجابات عن أسئلة الداخل وكيفية التعايش.

الامتحان الصعب الذي ستعبره التجربة هو في كيفية إجابتها عن أسئلة تكوين السلطة التنفيذية، وإعادة تكوين السلطة التشريعية انتخابياً، وإعادة توزيع المؤسسات، وحصة كل طائفة من مراكز القوة ومفاصل الدولة ومغانمها الكبيرة. لا آلية حتى الآن غير آلية التسوية. لم يسمع أحد، وقد لا يصدّق أحد إذا سمع، أن الإدارة لن تكون حزب السياسيين، أو أحزاب الطوائف. شهيّة زعماء الطوائف يتمّ إشباعها عبر المؤسسات اللبنانية وأجهزة الإدارة. ليست الإدارة لخدمة الشعب اللبناني، بل هي حصة موزّعة على زعماء الطوائف. الإدارة اللبنانية معادية لـ «الشعوب» اللبنانية… التسوية غالباً ما تكون الحل الأسوأ. تاريخ التعيينات والمناصب في الإدارات خاضع لمساومة المصالح. لم يسمع أحد بعد، وقد لا يُسمع صوت إعادة النصاب التوظيفي لمجلس الخدمة المدنية. قد لا يلتفت أحد إلى مبدأ الكفاءة، إلى مسلك النزاهة، إلى نظافة الكفّ، إلى استقامة القضاء، إلى وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، إلى تسييل قانونَيْ «الإثراء غير المشروع» و «من أين لك هذا؟»… الخ.

هي معركة خسرها الرئيس فؤاد شهاب مع زعماء الطوائف الذين كانوا أقل جشعاً من قادة اليوم، الذين تناوبوا على اقتطاع المؤسسات والإدارات، فتحوّلت ملحقات مبرمة لطوائف بعينها، حيث تستقوي الطائفة الأقوى على سواها، ما يبرر رفع شعار «المظلومية» وتداوله. ثبت أن الطائفية، في كل تجلياتها، تولّد المظلومية، فهل يكون هذا العهد استثناءً، وكيف؟

فرضية التفاؤل ضرورية، العهد الجديد يُستقبل بحفاوة الأمل. حتى هذا غير ممكن، وغير متوقع. أولى المعارك قانون الانتخاب الممتنع منذ عقود. المطلوب صياغة قانون النقاء التمثيلي. القانون الحالي يشرّع السطو الطائفي. هناك مَن سيخسر وهناك رابح. ســعد الحريــري ونبــيه بري ووليد جنبلاط، أركان السلطة الجديدة، غــير مستــعدّين للتخلي عن نــواب مسيحــيين يفــوزون بأصوات أكثرية غير مسيحية.

الجنرال، قبل الرئاسة، طموحه دولة قوية. يصعب ذلك بل يستحيل. ستكون له دولة أقوياء. القوى التي دعمت انتخابه تريد دولة ضعيفة. الدولة ضرورية لأنها البقرة الحلوب لمن تناوب على الزعامة والسلطة والحكم والإدارة. مفاصل الدولة والمؤسسات خاضعة لأصحاب الدويلات الطائفية. لمَ تمّ تمزيق نسيج الدولة؟ من انتخب الجنرال ينتمي معظمه إلى عقيدة المزرعة، حيث الفساد القاعدة. والفساد منظّم وموزّع بحماية الطائفية، التي أضحت في عهد الجنرال الخيمة الوحيدة التي تظلل الدولة المخلّعة. ثبت أن الديموقراطية لا تتعايش والطائفية، ولا العدالة، ولا المحاسبة، ولا الكفاءة، ولا الهوية الوطنية، ولا الولاء للدولة. في ظل الميثاقية الاستغلالية، ثم تجاهل الدستور والاستهتار بالقوانين. أكلة الجبنة من التراث السياسي العريق، لم يخطئ فؤاد شهاب بتسميتهم بأسمائهم. فماذا عن «الحيتان» التي تجرّأ وليد جنبلاط على تسمية مَن هم مِن طبقته بهذا اللقب؟ هل يستطيع العهد الجديد، بهذا الطاقم القديم، لجم شهية الافتراس؟

النيات لا تبني دولاً. طموحات الجنرال تصطدم بالطبقة التي أشعرنا في البداية، بعد عودته من المنفى، بأنه جاء ليحاربها. حاربها كلامياً. مَن حاربهم لم يغيّروا من سيرتهم. وها هم شركاؤه في «لبنان الجديد».

وبرغم كل ذلك، ومع فداحة منسوب التشاؤم، سنُعطي أنفسنا استراحة انتظار. انتظار أيّ جديد حقيقي ووطني ومدني، لننتمي إلى الأمل، من أجل أجيال من شباب لبنان، أدمنت معاقرة الأفق المسدود.

أخيراً… لا بد من الانتظار، أملاً ألا يكون بلقب غودو.