IMLebanon

لبنان والتحولات: الموقع والقدرة

 

نصيب لبنان من التحولات الهائلة في المنطقة لم يكتمل بعد. ومن الوهم أن نتوقع مساراً سهلاً وقصيراً للاكتمال، وإن تسارع اكتمال المرحلة الأولى والمفتاحية من التغيير عبر انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية وتأليف حكومة الرئيس نواف سلام. فالتحولات في الشرق الأوسط لا تزال في حال سيولة. وهي تواجه عقبات وقوى ترفض التخلي عن مشاريعها ومواقعها والأدوار، وبعضها يتصور أن استعادة ما خسره هو “حتمية تاريخية” حسب نظرية “الحساب على المدى الطويل” التي يؤمن بها المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. والتغيير في لبنان هو “بقوة الأشياء” داخلي في جانب منه، وخارجي في جانب آخر. فلا أزمات بسيطة في الوطن الصغير، ولا حلول سهلة. والأزمات والحلول محكومة بتداخل القوى المحلية والقوى الإقليمية والدولية.

 

 

 

والسؤال ليس فقط عن أي موقع للبنان على الخارطة الجيوسياسية للمنطقة في التحولات بل أيضاً عن قدرة لبنان على تثبيت الموقع الذي يختاره اللبنانيون، ورغبة القوى الإقليمية والدولية في مساعدة البلد على تركيز موقعه ودوره. والجواب النظري سهل بالنسبة إلى كل طرف محلي أو خارجي. لكن التطبيق على الأرض صعب ويحتاج إلى جهود كبيرة وجرأة على القطع مع التقليد أو مع الاستقواء على الناس والدولة.

 

 

 

ذلك أن الصراع في لبنان وعليه صار أو كان، بطبائع الأمور، جزءاً من الصراع في الشرق الأوسط وعليه. فلا نحن خارج حرب غزة، وإن توقفت “حرب الإسناد”. ولا ما احتلته إسرائيل من أرض جنوبية في الحرب مع “حزب الله” معزول عن الخطط وما تفعله حكومة نتنياهو في غزة والضفة وسوريا. لا نتنياهو يعمل خارج الدعم الأميركي ضمن خطة دونالد ترامب في المنطقة. ولا الإدارة السورية الجديدة بعد إسقاط نظام الأسد تواجه سهولة في الانتقال إلى خطاب التنوع أو إلى كشف نياتها الجهادية السلفية، حيث يحتاج التغيير في لبنان إلى أن تستقر سوريا على نظام تعددي. ولا الجمهورية الإسلامية تتخلى عن مشروعها الإقليمي والفصائل المرتبطة بالحرس الثوري، وإن خسرت سوريا وتلقت ضربة في لبنان وغزة واليمن عبر “حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وأنصار الله” وتخوفت من خسارة الفصائل المسلحة العراقية التابعة لها. والمشهد مكشوف بالكامل. أميركا تستعجل التحولات في المنطقة والإجراءات التي تكرس لبنان في “المحور الأميركي”. لكن عليها أن تعرف أن التسوية المطلوبة للبنان مع إسرائيل دونها عقبات وحسابات في الداخل قبل الخارج، لأن التطبيع ليس وارداً أقله قبل قيام دولة فلسطينية. وهي تمارس مع إيران لعبة مزدوجة: إما اتفاق على الملف النووي والملف الصاروخي وملف النفوذ في المنطقة، وإما مواجهة خيار عسكري بدأ أصلاً ضد “وكلاء” إيران ومرشح لأن يصل إلى طهران. والجمهورية الإسلامية تعمل على استعادة “وحدة الساحات” وإبقاء لبنان ضمن “محور المقاومة الإسلامية” من خلال إصرار “حزب الله” على الاحتفاظ بالسلاح واستمرار التسلح، وبالتالي العمل في الحد الأدنى لمنع لبنان من أن يكون في المحور الأميركي، وعلى المستوى المتوسط لإبقاء ظل “المحور الإيراني” فوق بلاد الأرز، وفي الحد الأقصى لحكومة “صاحب الزمان”. وما يريده لبنان هو البقاء خارج صراع المحاور. فهو في البداية والنهاية ضمن تواجه الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين. وهو حريص على التوازنات في الداخل ضمن الشراكة الوطنية بعيداً مما كان في المرحلة الماضية هيمنة لا شراكة.

 

 

 

وأخطر ما يمكن أن يصيبنا، مع التراخي والخوف من الجرأة في السلطة، هو الوقوع في ما يسميه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار “نظام التدوير” حيث “لا شيء مما اعتقدنا أن التاريخ تجاوزه اختفى”.