للضمانات شروطها، وفي مقدمها قدرة ورغبة الضامن/ الضامنين على إلزام أطراف الصراع ببنود ومتطلبات وشروط الضمانة، سعياً إلى التهدئة أو الهدنة أو حتى إنهاء حالة الحرب، بما يؤمّن مصلحة الضامن وحلفائه قبل أي طرف آخر.
الولايات المتحدة هنا هي في المقام الأول من المسؤولية الأدبية في استقرار الأمور على الحدود اللبنانية – الفلسطينية بوضع حد لوقف الاعتداءات الصهيونية وتداعياتها. ما وصلنا إليه لا يشير إلى رغبة أميركية في الضغط على الصهاينة، ودون أن نتطرق إلى «عجزها»، وقد أعلنت عنه مراراً وبتصريحات فجّة.
فما دوافع المطالبة الرسمية اللبنانية بضمانات – إن أعطيت شكلياً – لا تسمن ولا تغني من جوع؟!
نستعرض بعضاً من خداع الضامنين علّه يغنينا عن التلهّي بمطالبات عقيمة.
غرناطة
وقّعت معاهدة غرناطة في 25/12/1491م/ 21 محرّم 897هـ، بين دولة غرناطة المسلمة (ما تبقّى من الأندلس الإسلامية) ودولة قشتالة المسيحية على أساس أن تحتفظ غرناطة بكيانها ومؤسساتها الإسلامية، وأن يتمتع سكانها بجميع حقوقهما الدينية والدنيوية تحت نفوذ الدولة المسيحية، على غرار ما كان يتمتع سكانها به النصارى واليهود من حقوق في ظل الحكم الإسلامي في عهد الأندلس الزاهر. ومنحت الغرناطيين جميع الحقوق الأساس الدينية والاجتماعية والاقتصادية، وختمت بتوقيع الملكين الكاثوليكيين ونالت موافقة البابا، بعدما أقسم كل من الملكة إيزابيل الكاثوليكية وزوجها فيرناندو على الكتاب المقدّس سبع عشرة مرة على احترام بنود المعاهدة العلنية المذكورة على الدوام والاستمرار وإلى الأبد. ولكن على أرض الواقع لم تكن إلّا حبراً على ورق وخدعة.
وفي ذات اليوم الذي وقعّت فيه المعاهدة وفي ذات المكان بمرج غرناطة أبرم ملحق سري للمعاهدة الأولى، يتضمن الحقوق والامتيازات والمنح التي تُعطى للسلطان أبي عبدالله ولأفراده وأسرته وحاشيته، متى نفذ تعهداته، وأبرزها، أن يأخذ أبو عبدالله هبة ثلاثين ألف جنيه قشتالى ذهب، ويحتفظ بالأراضي والحدائق التي يملكها سواء في الغرناطة أو البشرات.
سقطت غرناطة في 2 ربيع الأول عام 897 هـ الموافق 2/12/1492م بتسليم الملك أبو عبد الله محمد الصغير إياها إلى الملك فرديناند الخامس بعد حصار خانق دام تسعة أشهر. وتضمن استسلام 1492 ستة وسبعين بنداً تضمن مجموعة من الحقوق لمسلمي الأندلس بينها التسامح الديني والمعاملة العادلة مقابل استسلامهم غير المشروط وخضوعهم.
أسّست تلك المعاهدة إلى مرحلة تاريخية جديدة، اتسمت بالتعصب الديني والعنصري، فقد تعرّض الأندلسيون بعد سقوط غرناطة إلى الاضطهاد في كل جوانب الحياة، ومن ثم جاء قرار الطرد من بلادهم، ليتوّج السلب الكامل لحقوقهم التي حفظتها تلك المعاهدة.
ولم يمرّ سوى 88 يوماً على تسليم غرناطة حتى برهنت إيزابيل على نيّتها الحقيقية بعدم احترام المعاهدة العلنية حيث أصدرت يوم 31/3/1492 مرسوما يقضي بطرد جميع يهود غرناطة.
الأكراد
احتلت القضية الكردية مكاناً بارزاً في معاهدة سيفر التي تم التوقيع عليها في (10 آب 1920) بين دول كانت السلطنة المهزومة واحدة منها.
خصص القسم الثالث من الباب الثالث منها معالجة المسألة الكردية وحمل عنوان (كردستان) ويتألف من المواد 64,63,62 التي هدفت إلى انشاء دولة كردية مستقلة في تركيا، يمكن أن ينضم إليها أكراد كردستان العراق «ولاية الموصل» إذا ارادوا ذلك. كما تطرقت المعاهدة إلى القضية الكردية أكثر من مرة خلال مناقشة المسألة الأرمنية ومسألة الأقليات داخل تركيا، كالفصل الرابع الذي هدف إلى حماية الأقليات.
تبدّلت الأمور في مؤتمر لوزان، بعد دعم يهود الدونمة لكمال أتاتورك واستيلائه على السلطة في تركيا، ولم يمثل الأكراد في المؤتمر ولم تطرح القضية الكردية في لوزان، فقد تجاهلت القوى المتصارعة خاصة بريطانيا وفرنسا مصير الشعب الكردي، ووعودهم بإنشاء دولة كردية، وفي 24 تموز 1923 تم طي صفحة سيفر، ولم يرد ذكر للكرد في بنود المعاهدة الجديدة الـ 143 «معاهدة لوزان». ومردّ ذلك إلى ان الدول التي تقتسم المناطق الكردية ورغم خلافاتها، تتفق معاً لمواجهة القضية الكردية، وخير مثال اتفاق إيران وتركيا خلال مؤتمر سيفر برفض إدراج القضية الكردية على جدول عمل المؤتمر.
يوغسلافيا
في سنة1991 بدأت أولى حلقات التفكك في يوغسلافيا وتدهورت الأمور إلى حرب أهلية كارثية في البوسنة (1992-1995) أكثرها دموية ووحشية كان في البوسنة والهرسك رغم كل الضمانات الأممية والدولية التي أعطيت للمسلمين ودمّرت البلاد وشهدت فظائع ومذابح وموجات اغتصاب للمسلمات السلاف، واستمرت حتى أواخر عام 1995.
أوكرانيا
وبعد تفكك المعسكر الاشتراكي وانهيار الاتحاد السوفياتي 26/12/1991 أُعطيت أوكرانيا – كانت في المرتبة الثالثة بين الدول النووية بعد الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق – ضمانات بسلامتها إن تخلّت عن ترسانتها النووية، وها نحن اليوم نشهد «الالتزام الحديدي» بتلك الالتزامات.
الصراع العربي – الصهيوني
من الطبيعي وغير المألوف أن تكون الأمم المتحدة ومجلس الأمن الضامن الأكبر لسيادة الدول واستقلالها وحرية شعوبها، وقد حرصت الجمعية العامّة للأمم المتَّحدة على التأكيد مرّة بعد مرّة «أنّ التدابير التي اتَّخذتها اسرائيل في الماضي، وكذلك أعمالها، تُثبت أنّ إسرائيل ليست دولة مُسالمة، وأنّها انتهكت بشكل مُستمرّ مبادئ الميثاق، وأنّها لم تَفِ بالتزاماتها بموجب الميثاق، ولا بتعهّداتها النابعة من قرار الجمعية الرقم 273 الصادر في 11/5/1949 [قرار قبول الكيان الصهيوني في عضويّة الأمم المتحدة]».
لم نفاجئ بكل المواقف الدولية الرجراجة بضغط الفيتو الأميركي المسخّر لخدمة الأهداف العدوانية الصهيو-أميركية منذ 1949، لا سيما القرار 1881 مروراً بالقرارات 242 و425 و426 وصولاً إلى القرار 1701. دون أن ننسى كيفية ترجمة الضمانات الأميركية مجازر في مخيمي صبرا وشاتيلا في أيلول 1982.
في التاريخ ما يحملنا إلى خيارات أخرى قائمة على إقرار استراتيجية أمن وطني، مسؤولة عنها دولة قوية سيدة تفرض سلطتها على كامل أراضيها وتعمل على طرد المحتل الذي يمنعها من ذلك، دولة عادلة عصرية بمؤسساتها الدستورية والأمنية.
لذا صار الأجدى توفير الجهد والإلحاح والمطالبة بضمانات أميركية لن تُعطى… وإن اُعطيت فلن تنفذ.
* مؤرخ وكاتب سياسي