IMLebanon

آلو» بشار، هنا أردوغان

من دون مقدمات، فاجأ أردوغان روسيا بالاعتذار. جاء الجواب سريعاً: «آلو، هنا بوتين». تراجعات ثنائية وتنتهي الأزمة. كادت أن تكون «أنجرليك» التركية، قاعدة للطيران الروسي.

كان واضحاً أن التصعيد وصل إلى حدوده القصوى. ما بعد ذلك لا تُحمد عقباه. الخسائر متبادلة وجسيمة. المزيد من التشنج يفترض حتمية الاحتكاك والانتقام، والخسائر عندها خطيرة ومعدية ومتفجّرة… انتصرت الواقعية عند أردوغان. الخسارة أمام بوتين ستوفر أرباحاً مجزية. حسابات المصالح أعادت العلاقات الثنائية إلى أفضل مما كانت بكثير. أسقطت العقوبات المتبادلة، ظهرت بوادر الاستعداد للتعويض عن إسقاط الطائرة الروسية، ألغيت التدابير العدائية، فك أسر السياحة، وأولاً وأخيراً، باتت سوريا على جدول أعمال البلدين، كصديقين لدودين، على الأقل، ولا عودة إلى الوراء.

يتطلّع مراقبون إلى تعديلات جذرية في سياسة أردوغان الإقليمية. وهكذا، من دون اتصال بنتنياهو، تمّت الصفقة، بدعم أميركي، وحلت عقدة «سفينة مرمرة»، ونالت تركيا حق الاعتذار والتعويض، واحتفظت «إسرائيل» بـ «حق» استمرار الحصار على غزة. الرهان، بعد ذلك، على تكوين «حلف المعتدلين» الموالين لأميركا الذي سيشمل دولاً عربية إلى جانب «إسرائيل». الخلاصة، تركيا تعيد حساباتها وتتغير.

ما حصل حتى الآن، ليس من باب «الهلوسة»، مَن كان يظن أن مثل هذا سيحدث بهذه السرعة، بعد نشوة السلطان أردوغان بإسقاط الطائرة الروسية، واعتقاده أنه بات نداً دولياً لدولة روسيا العظمى؟ مَن كان يفكر أن القيصر بوتين سيتنازل بهذه السرعة ويُمسك بسماعة الهاتف، بُعيد الهجوم الإرهابي على مطار إسطنبول، لتعزية أردوغان بالضحايا واستنكاره الإرهاب المرعي والمدعوم من انقرة، وفق اتهامات موسكو؟ مَن كان يعتقد أن الاعتذار التركي سيدرّ على انقرة عفواً عاماً وسخاء سياحياً وتجارياً، وما يشبه الشراكة «في خندق واحد»، لقتال «داعش»؟

هذه الواقعية المفاجئة، المؤسسة على حساب المصالح، تتيح في السياسة الإقليمية المقلقة والميؤوس منها، التجرؤ على «الهلوسة»: كأن يرنّ الهاتف في قصر المهاجرين في دمشق ويسمع الرئيس: «آلو بشار، هنا أردوغان». ويكون ما سيكون، ضد كل ما هو كائن الآن، لأن ما كان حتى الآن، لن يؤدي إلى انتصار نهائي لأي طرف، ولن يُفضي إلى كسب قابل للصرف. النار السورية انتقلت إلى تركيا بعنف غير مسبوق، ولامست الأردن لأول مرتين، وبلغت أوروبا واجتاحت العالم. يُقال اليوم، هذه حرب عالمية ثالثة بقيادة «الإرهاب» ومتفرعاته العقدية والسياسية والدولية.

لن يرنّ هاتف أردوغان: «آلو رجب، هنا بشار». «هلوسة» مستحيلة اللغة. ماذا يقول الواحد للآخر؟ سوريا بؤرة مشتركة، تلتقي فيها منظمات وجماعات وطوائف ومذاهب واتنيات ودول بمصالح متناقضة وأحقاد وثارات مزمنة. لا يملك الإثنان سلطة القرار. فلا قضية الأكراد ثنائية، ولا «داعش» احتكار لأحد. التفشي الوبائي لا يمكن معالجته بالسيطرة على حلب، احتلالاً أو تحريراً. ولا الإسلام السياسي برأس واحد. هو اخطبوط جهنمي يملك حق العبث والقتل بمرجعية «إلهية». لعل الهاتف يتيح لبشار وأردوغان أن يسلكا كضدين، طريقاً واحدة إلى طاولة التفاوض النائية. لعل. ولكن ذلك من الكوابيس. الحقيقة أن سوريا قد تصبح اسماً بلا مسمّى وبلا جغرافيا. الامحاء يهدّد دولاً وشعوباً. شيء من الانقراض.

الأجدى، ربما، أن يرن الهاتف في القصر الملكي في جدة: «آلو صاحب الجلالة، أنا الشيخ حسن روحاني». «هلوسة» مرغوبة وذات فائدة قصوى. الطرفان يملكان مفاتيح المنطقة ودخلا إليها من أبوابها المذهبية والسياسية الواسعة. كلاهما حاضر في اليمن حضوراً غير رمزي. المملكة تقاتل براً وجواً. إيران تدعم سلاحاً ومالاً، وعديداً ربما، لكل منهما خندق ومعسكر ومنظمات وجيوش وقبائل… كلاهما حاضر في سوريا، حضوراً ثقيلاً، بأعباء متزايدة، مالاً وسلاحاً وعتاداً وعديداً. خمس سنوات طاحنة بلا حسم. النتائج العسكرية متدنية في مردودها. المكاسب تتحوّل إلى خسائر، فالانتصار ممنوع، إلى «يوم القيامة» ربما!

لم يفت الأوان بعد. القراءة في مستقبل المنطقة تحفظ لإيران والسعودية موقعيهما. هذا المستقبل بعيد جداً ويمكن تقريب مواعيده، إذا حصلت المراجعة: لم يخسر الطرفان بعد ولم يربحا. لذا، الحرب مستمرة. الرهان على انكسار إيران خرافة. صمدت في حروبها ضد صدام حسين وفي الحصار المفروض عليها طوال عقود، وخرجت دولة إقليمية، بمقعد غير رسمي بعد، بين الدول الكبرى. الرهان على انكسار السعودية سابق لأوانه وقد يكون وهماً. هذه مملكة تطيعها الجامعة العربية، تخضع لها المنظمات الدولية. مجلس الأمن رهن ملاحظاتها. توبخ بان كي مون فيتراجع. تحضر في المنتديات الدولية وبعض الأمرة لها. تعاند أميركا علناً. لم تعد خاتماً في يد واشنطن. المملكة خطيرة ولم تنفد أسلحتها بعد. تحارب وتناوش على جبهات متعددة، وتطمح لأن تكون دولة صلبة من دون احتساب النفط كأساس…

الحرب أسفرت عن عبث. الحرب إذا استمرت قد تمتدّ إلى الدولتين. لعل الخوف من الفتنة يقود إلى تفاديها. مستقبل المنطقة سيكون من خلال البناء على ما أنتجته الفتنة المذهبية في المنطقة. لن تلغي السنّة الشيعة ولا الشيعة ستلغي السنّة، لا في السياسة ولا في المذهب. الإسلام السياسي فاشل جداً في بناء الدول والحفاظ عليها. الإسلام السياسي وصفة ناجحة للتقسيم والاقتسام، للحرب والاحتراب. هل تستطيع المملكة الوهابية وإيران الولاية، اقتسام المنطقة؟ هل يفضلان الانسحاب منها، تاركين «منظومة الدويلات» تعيد ترتيب وجودها؟

هلوسات أسئلة، لا منطق يسود حتى الآن غير الحرب. ماذا لو اتصل بن سلمان بسليماني: «آلو. ما رأيك بسلام المتعَبين والفاشلين»؟ لن يحصل ذلك. الزمن مفتوح على مزيد من الموت.

إن هذه الهلوسات أكثر جدية من الحروب الدائرة في المنطقة كمطحنة للشعوب، بلا أفق ولا كلمات ولا مفاوضات.

«آلو… أيتها الشعوب العربية. خطوط الرجعة مقطوعة. خطوط التقدّم ملغومة. ليس أمامكم غير ما قد كتب لكم في كتب الفقه وفي رسائل العواصم القريبة والنائية».

حلم ذات أمل: «العرب العائدة قد ترث العرب البائدة».

ليت، ولو طال الزمن.