IMLebanon

عن حزب الله وحلفائه… والمعركتيْن

 

المعركة القائمة في لبنان تحتمل التمييز بين معركة كبرى على هُوية البلاد، وأخرى أقلّ حجماً على طبيعة السلطات القائمة وأدائها. هدف التمييز التفريق بين طبيعة وخلفية المنخرطين في المعركتين اللتين ستشهدان احتداماً في الأشهر القليلة المقبلة. صحيح أن الانتخابات النيابية تشكّل استحقاقاً مركزياً، لكنّ أحداً لا يمكنه اليوم أن يجزم بأنها حاصلة حتماً. وقد يكون الانفجار الاجتماعي الحقيقي هو العامل المركزي في الدفع ليس نحو تغيير للسلطة من خلال صناديق الاقتراع فحسب، بل نحو إعادة صياغة دستور جديد لهذه البلاد. وعندها لا يبقى معنى لهذه الانتخابات.

 

في المعركة الكبرى، يتشارك اللاعبون في لبنان مصالح وحسابات قوى في المنطقة والعالم. عملياً، نحن أمام مواجهة بين محور تقوده الولايات المتحدة ومحور تقوده إيران. ولا يُخفي أنصار أميركا، أو المتحالفون معها، أن هدفهم التخلّص من المقاومة، إذ يجدون في فكرة المقاومة، وفي آلية عملها وأهدافها، ما يتناقض مع أحلامهم وتصوّراتهم لهذا البلد. وبالتالي، فإن قسماً من اللبنانيين يقول، صراحة، إنه لا يريد المقاومة. ومن كان يزعم سابقاً أنه يدعم المقاومة حتى تحرير الأرض، بات يصرّح اليوم بأنه لا يريدها من أصلها، بل يريد تسوية مع إسرائيل.

يعرف خصوم المقاومة أنها ليست لاعباً محلياً كالآخرين، ويدركون أن طبيعتها تحول دون أن تكون لاعباً محلياً. وجود إسرائيل سبب رئيس وحاكم لوجود المقاومة. وجود إسرائيل، وليس احتلالها لأرض لبنانية، هو الحاكم لوجود المقاومة في كل مكان من هذه المنطقة. وهذا يعني، ببساطة، أن المقاومة تحتاج إلى عناصر قوّة لحماية نفسها وتأمين صمودها وتطوير قدراتها وأدوارها الردعية. وهي تفعل ذلك عبر تعزيز قوتها في لبنان، ومن خلال حماية ظهرها عبر الدور الذي تلعبه في سوريا والعراق، وبتعزيز فعّاليتها من خلال التحالف العضوي مع المقاومة في فلسطين، وبحماية عمقها في المنطقة والإقليم من خلال علاقتها الخاصة مع اليمن أو تحالفها الاستراتيجي مع إيران. ولأنّ الأمر على هذا النحو، لا يُفترض بخصوم المقاومة التصرّف بغرابة مع المواقف التي تتخذها والخطوات التي تقوم بها. كما أنه ساذج من يتوقع أن تحصر المقاومة نفسها ودورها في لبنان.

في هذه المعركة، لم تعد هناك أسلحة خَفيّة. أميركا لا تمزح الآن. وهي لا تعاقب المقاومة فقط، بل كل من لا يرفض المقاومة. الجديد في الحرب أن الأميركيين لن يقبلوا، بعد اليوم، من أي طرف لبناني أن يقول: «نحن مع المقاومة… ولكن». وهم واضحون في أنهم يريدون من الجميع الجهر صراحةً بأنهم «ضدّ المقاومة». وهذا ما فرض تعديلاً جوهرياً في آليات العمل، وما يجعل الضغوط على لبنان تتخذ أشكالاً، من السياسة إلى الاقتصاد والأمن والمال. وهي ضغوط ستتعاظم كلّما اشتدّت المعركة.

في المقابل، لا تزال المقاومة تلعب في موقع الدفاع. فلا تبادر إلى ضرب الأميركيين مباشرة، ولا إلى ردع المنخرطين في المحور الذي تقوده أميركا أو معاقبتهم. وهي لا تزال ترفع «الصبر» شعاراً، لأنها تريد أن تختار، هي، موقع المعركة مع الأميركيين وزمانها. ولذلك، فإنها مستعدّة لتحمّل العبء والأثمان، وحتى الضربات، من أنّى أتت وكيفما جاءت، وهذا ما يدفع الطرف الآخر إلى مزيد من التصعيد.

لكن، يبدو أن هناك ما استجدّ بما يفرض تعديل آليات العمل، إذ يبدو أن المقاومة تتحضّر لمغادرة موقع الدفاع. والمواقف الأخيرة، حيال الحملة السياسية والإعلامية المحلية والخارجية على المقاومة، ليست سوى إشارة أولى، من ضمن استراتيجية تستهدف الانتقال إلى الهجوم كوسيلة مناسبة للدفاع، خصوصاً أن الطرف الآخر لا يقف عند أي اعتبار إنساني في هذه الحرب الشرسة، وأن هناك جيشاً من اللبنانيين والعرب المنخرطين، بقوة، في هذه المعركة، وكل ما نشهده يؤكّد بوضوح أن محور أميركا، لم يعد يقبل حتى بتسويات، بل يريد إطاحة المقاومة أياً كانت الكلفة.

 

على حزب الله أن يدفع حلفاءه إلى تغيير كبير في سلوكهم، والوقوف عند خاطر التائهين من أنصار المقاومة

 

 

في هذه المعركة، يصبح لزاماً على أنصار المقاومة وقف المزاح أيضاً. الأمر اليوم يتجاوز النقاشات العامة والجدل القابل للضبط، إذ إننا أمام معركة وجودية. والدفاع عن المقاومة وحقّها في حماية نفسها وتعزيز قوتها وتوسيع دائرة نفوذها، يحتاج إلى انخراط مختلف في هذه المعركة، وهنا، سنكون أمام اختبار لكثير من القوى والشرائح التي لم تكن تجد مشكلة سابقاً في مجرد إعلان دعمها للمقاومة، فيما هي تقف اليوم أمام تحدّي دفع ثمن هذه المواقف، وهذا ما يجعل سقوط كثيرين أمراً متوقّعاً.

في المعركة الثانية، يجد لبنانيون كثر أنفسهم أمام عصابة تستمر في حكمهم، بكل قساوة وجلافة واستهتار، وأن عليهم رفع السقف في مواجهة أركانها. هؤلاء يتصرّفون تحت ضغط الأزمة الاقتصادية والمعيشية المتفاقمة، ويتقدمون أكثر نحو مواجهة ستكون مليئة بفوضى الشعارات والتحالفات والخطوات. وفي هذا الإطار، لن يكون مقبولاً أن تتصرف المقاومة، ومن يدعمها، بالطريقة نفسها كما في المعركة الكبرى. هنا، يجب التنبّه إلى أن التكتيك السياسي للمقاومة سيضعف إذا ما بقي محكوماً بطبيعة التحالفات القائمة اليوم.

ربما يرى كثيرون مناورةً في دعوة التيار الوطني الحر إلى مراجعة التفاهم مع حزب الله، وأن للتيار أهدافه الموضعية المرتبطة بالانتخابات. لكنّ التيار رمى، عامداً أو من دون قصد، حجراً كبيراً في المياه الراكدة (أو حتى الآسنة) التي يعيش فيها الحلف الذي قام منذ عام 2006.

وما فعله التيار تقوم به حركة أمل، وإن بطريقة مختلفة. لا تخاطب الحركة الحزب احتجاجاً أو تدعوه إلى مراجعة. لكنها تقول له إن نظرتها إلى المعركة الداخلية باتت تختلف عن نظرته. مشكلة أمل، هنا، أنها تخوض معركة دفاعية كبرى عن حجمها التمثيلي في السلطة وفي الدولة وفي الشارع أيضاً. لكنّ الحركة، كما التيار وتيار «المردة» وغيرهما من قوى وشخصيات، إنما يصعّبون الأمر على المقاومة في كل ما يطالبون به. فيما يرفض معظمهم القيام بأي مراجعة أو نقد ذاتي، أو حتى محاولة تشخيص المشكلة، من أجل توزيع عادل للمسؤوليات عن المشكلات القائمة. الأسهل لهؤلاء، جميعاً، رمي كرة النار في حضن حزب الله وإحراجه لإلزامه بخطوات تهدف إلى تحسين وضع كل فريق على حساب الآخرين.

لا يمكن لعاقل فصل قراءة حزب الله للأحداث الداخلية عن المعركة الكبرى. لكنّ أخطاء كثيرة وقعت تستدعي لفت انتباه الحزب إلى أن هناك خللاً ما في إدارة الملفات الداخلية. وهو خلل يتطلّب المراجعة الأهم. كما يتطلّب – ولو أننا جميعاً تحت الضغط – إعادة النظر في مقاربة الملفات. ويمكن الافتراض أن هناك حاجة إلى ابتداع آليات عمل تتيح الوصول إلى نتائج أفضل.

اليوم، ما يقوله نبيه بري أو جبران باسيل أو سليمان فرنجية أو آخرون من حلفاء المقاومة، هو أنهم هم من يجيدون إدارة الملف الداخلي بصورة أفضل. يُكثر هؤلاء من تكرار لازمة «لتترك لنا المقاومة الملف الداخلي ولتتفرّغ هي فقط لحماية المقاومة». ويتجاهلون أن المقاومة فعلت ذلك منذ ثلاثة عقود، والحصيلة كانت خسائر تلو الخسائر. كما يتجاهلون أن نظرتهم إلى الملفات الداخلية ليست واقعية، وأن المقاربات غير علمية، وأن الحسابات ضيّقة وفئوية، وأن طريقة إدارة المؤسسات والسلطات خلال ثلاثة عقود لم تنتج سوى الفشل.

عملياً، عندما يجري التوجه إلى حزب الله لإعادة النظر، إنما يُقصد بذلك رسم إطار جديد للتحالفات، ومطالبة الحلفاء – الأقربين منهم والأبعدين – بتغيير حقيقي. وهذا يقتضي أن يعالج الحزب مسألة الانتخابات النيابية مبكراً، عبر إعلان برنامج سياسي وخطة تحالفات وترشيحات تقطع مع الماضي، وأن يفرض (نعم يفرض)، على الآخرين، سياسات ومقاربات جديدة، وأن المهم ليس فقط الوقوف عند خاطر حلفاء هم حاجة للمقاومة اليوم، بل عند خاطر كتل من الناس غادروا مربّعات الحلفاء، وبعضهم تائه تتصيّده أدوات المحور الأميركي المهتمّ بالمعركة الكبرى.

غير ذلك، سنبقى نحصد خسائر نحن في غنى عنها، وليس آخرها كيفية مقاطعة الحكومة ثم قرار العودة إليها!