لم يكُن «حزب الله» قاب قوسين من «الانتصار» أبداً، بالمعنى الذي يتخيّله بعض المتحمّسين، أي بضربة قاضية لمن ينازعونه البقاء أو المصالح، تُريحه منهم إلى الأبد. فذاك أمرٌ مُحالٌ في ظل ضخامة أوزان اللاعبين الذين يُقابلونه في الميدان. لكن التنظيم الذي نشأ كواحد من أبرز ارتدادات «الثورة الإسلامية» في إيران في العام 1979، أخذ يُراكم إنجازاتٍ موضعية، سمحت له بفرض الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان العام 2000، قبل أن يَثبُت على قيد الحياة من دون تنازلات تُذكر في العام 2006. يومها، لم تُذبح التجربةُ من وريدها حتى الوريد، برغم حربٍ كادت تقتلع بيئتها الحاضنة وتصنع لها «نكبة» خاصة أو كربلاء مُستعادة. بقي أصحابُ العلم الأصفر يُشدّدون على دورهم كـ«استثناء» على السائد، ويسوّقون لأنفسهم كلاعب يفتح أبواب احتمالاتٍ جديدة لم يعتَدها الإقليم قبلاً. ظلّوا منخرطين في لعبة التوازنات شديدة التعقيد والاتقان من دون انسحاب، ووظفوا معاركهم في خدمة أفق إستراتيجي أوسع، ثم فرضوا المقارنة مع من سبقهم: كانت دولٌ كاملة في المنطقة قد دفعت أثماناً من سيادتها جراء حروب خاضتها وتسويات أبرمتها مع إسرائيل، فيما هم حافظوا على ديناميتهم، وتوسّعوا.
لكن «الاستثناء» الذي مثّله «حزب الله» على المسار العام لدول المنطقة لم يكُن مُريحاً لهذه الدول ولا لقوى كبرى ذات مصالح بيّنة فيها، ولا كان توسّعه عن طريق تقديم نفسه كـ«نموذج» لا دولتي non-state actor قابل للاستنساخ مطمئناً. ففي العراق أخذت جماعات تنشأ من خارج أطر الأحزاب «الشيعية» التقليدية وتنخرط في مواجهة مع الاحتلال الأميركي، علماً أن طابع المواجهة الغالب كان عربياً «سُنياً». وفي اليمن أخذت التجربة الحوثية تخلُق لنفسها ما كان يُعاب على «حزب الله» تأسيسه في لبنان، أي «دولة داخل الدولة» ذات مؤسسات خدمية قادرة على تأمين بيئة حاضنة شديدة الولاء. بينما في سوريا راح انخراط التنظيم يُثبّت بعض التوازنات، ولو أنه مثّل تورّطاً أو توريطاً ـ لا فرق ـ بات غير قادرٍ على النفاذ منه اليوم، إلا ربطاً بما تنتجه المعارك على الأرض، والتنسيقُ داخل جبهته، والمفاوضات بين الجبهات في جنيف.
في ظل هذا التضخّم في أدوار الحزب، يواجه الأخير اليوم تحديات تختلف عن السابق. إذ ثمة معطيان أُضيفا خلال العام المنصرم إلى سلّة الحسابات المُحدّدة لطبيعة معاركه الراهنة. أوّلهما يتصّل بإنجاز الاتفاق النووي مع طهران، وثانيهما بالاندفاعة السعودية المُستجدّة على مُستوى الإقليم. المُعطى الأول مفادُه رغبة واشنطن بتشذيب نفوذ إيران الإقليمي وحلفائها لقاء إعادتها، كدولة، لا كراعية للاعبين «لا دولتيين»، إلى «المجتمع الدولي». فيما الثاني يتعلّق برغبة الرياض الجارفة بقضم رأس التنظيم بعدما فشلت مساعي كسره أو تقييده.
وفيما تفضل واشنطن لعبة الاحتواء، فتُجيد الخنق مثلاً عبر ضبط عمليات التحويل المالي حول العالم، وقد باشرتها وأخذت اللعبة تُثمر تضييقاً على الحزب حتى داخل لبنان، تبدو الرياض كمن قررت نقل مواجهتها المُباشرة من اليمن، حيث قاتلت «شبيه حزب الله»، إلى سوريا، حيث «حزب الله» نفسه. وهي تَظهر كالمُتحمّس لتحقيق «انتصار» ناجز على التنظيم هذه المرّة، وتنتظر تل أبيب عند تقاطع طرق.
لو صحّت هذه الفرضية، لأمكن قراءة اغتيال مصطفى بدر الدين بين سطورها.