آخر من يحق له التنظير هو إعلام “حزب الله”، إن أكثر ما يلفت في الهجوم الأخير الذي تبثه محطّة المنار على “القوات اللبنانية” ووزرائها هو تلك القدرة العجيبة على قلب الحقائق، وكأن اللبنانيين فقدوا ذاكرتهم دفعة واحدة. فالمنظومة التي حكمت الدولة لعقود، وتحكّمت بمفاصلها وقراراتها ومؤسساتها وقضائها وحدودها، هي نفسها التي تظهر اليوم في موقع الواعظ الوطني، وكأن الانهيار التاريخي الذي ضرب لبنان لم يكن نتيجة سلاحها وهيمنتها وتهريبها وتعطيلها لكل فرصة إصلاح.
منذ خروج الجيش السوري عام 2005، كانت البلاد أمام فرصة لبناء دولة سيّدة، لكن هذه الفرصة سُرقت بالكامل.
من الذي قاد 7 أيار؟ من الذي أسقط حكومة سعد الحريري؟ من الذي عطّل انتخاب رئيس سنتين ونصف السنة؟ من الذي أقفل البرلمان؟ من الذي فرض سلاحه وإرادته على مؤسسات الدولة وربط لبنان بالمحور الإيراني؟ الجميع يعرف الجواب، و”القوات اللبنانية” لم تكن يومًا جزءًا من هذا المسار، لا سلاحًا ولا تعطيلًا ولا فرضًا ولا تهديدًا.
ومع ذلك، تأتي محطّة المنار اليوم لتُلصق بالقوات اللبنانية مسؤوليات لا تمت إليها بصلة، لا من قريب ولا من بعيد.
خذ مثلًا ملف الكهرباء، “القوات” لم تعد اللبنانيين بـ 24/24، بل وعدتهم بشيء واحد النزاهة والعمل وهذا ما التزمته.
أكبر فضيحة هدر في تاريخ لبنان الحديث. أربعون مليار دولار تبخرت خلال سيطرة كاملة لـ “التيار الوطني الحر” على الوزارة، التي كان يدعمها “حزب الله” سياسيًا ويغطي فشلها. سنوات من البواخر والصفقات والوعود الفارغة والانهيار التام من دون أي معمل جديد ولا أي خطة مستدامة. طوال تلك المرحلة، لم تجرؤ محطة المنار على توجيه انتقاد واحد لحليفهم. أمّا اليوم، وبعد أشهر فقط على وجود وزراء “القوات” في الوزارة، تُحمّلهم مسؤولية عقود من سوء الإدارة والفساد الذي صُنِع حصرًا في زمن المحور وحلفائه.
وإذا كانت الكهرباء شاهدًا صارخًا، فالدبلوماسية اللبنانية كانت الفضيحة الأخطر. لسنوات طويلة، تعاقب على وزارة الخارجية وزراء محسوبون على “حزب الله” أو على حلفائه السياسيين. لم يتجرأ أحد منهم على اتخاذ موقف واحد يضع مصلحة لبنان فوق مصالح المحور. لم يواجهوا التدخل الإيراني، ولم يسعوا إلى إعادة لبنان إلى عمقه العربي والدولي، بل تركوا الخارجية في عزلة تُرهق البلاد. ومع ذلك، تنصبّ السهام اليوم على وزير خارجية يريد أن يعيد القرار الدبلوماسي إلى الدولة لا إلى قوة الأمر الواقع.
أما المعابر غير الشرعية، فكانت ولا تزال أحد أكبر مصادر الدمار الاقتصادي. سلاح، مواد مدعومة، مخدرات، محروقات… كل شيء كان يمرّ عبرها تحت أعين الجميع وبحماية سياسية واضحة. هذه المعابر استنزفت خزينة الدولة ودمرت الاقتصاد الشرعي وأفقدت المؤسسات قدرتها على تطبيق القانون.
من غطّى هذه المعابر؟ من منع الدولة من إقفالها؟ من فرض على الأجهزة الأمنية الصمت؟
ليست “القوات”… فـ “القوات اللبنانية” كانت أول من طالب بإقفالها.
أمّا المحور الذي حماها، فيتنصّل اليوم من مسؤولياته ويرمي الاتهامات على غيره.
وفي القضاء، يحضر المثال نفسه: تدخلات، تعطيل، تهديد، تسييس، ملفات تُفتح عند الحاجة وتُقفل حين تصل إلى مناطق النفوذ، حتى أصبح القاضي الذي يريد تطبيق القانون مهدّدًا، والقاضي الذي يحمي الفاسد مرفوعًا على الأكتاف.
هذه المنظومة التي عطّلت العدالة طوال سنوات، تعلّم اليوم الآخرين عن الدولة والقانون. فيما “القوات” لم تستعمل يومًا القضاء كأداة ضغط أو انتقام.
لكن الحقيقة التي يحاول البعض الهروب منها تبقى الأساس السلاح الخارج عن الشرعية هو أصل الانهيار، وهو الذي يقرّر الحرب والسلم، ويُسقط الحكومات، ويُقفل البرلمان، ويعيّن الرؤساء، ويمسك بالحدود، ويفرض السياسات، ويمنع قيام دولة حقيقية.
وطالما هذا السلاح موجود، سيبقى لبنان دولة معلّقة بين المحاور، عاجزة عن النهوض مهما تبدّلت الوجوه وتغيّرت الحكومات.
لهذا السبب تُهاجَم “القوات” لأنها لا تشبههم. لأنها لم تمد يدها إلى المال العام، ولم تحمِ التهريب، ولم تغطِّ الفساد، ولم تتاجر بالقضاء، ولم تساوم على السيادة. ولأنها تقدّم مشروع الدولة والمؤسسات والسيادة في وجه مشروع دويلة داخل الدولة.
أما المنظومة التي خرّبت كل شيء، فهي تهرب من محاسبتها عبر أبواقها، وتحاول تشويه صورة “القوات” لإخفاء جرائم السنوات الماضية.
“القوات” لا تشبههم، ولا تشاركهم أساليب الهدم، ولا ترضى بالتسويات على حساب الدولة، ولا تغطّي الفساد ولا التهريب ولا الدويلة فوق الدولة. ولأنها بقيت مشروع السيادة والمؤسسات في وجه مشروع الفوضى والهيمنة ولأن الحقيقة باتت أقوى من كل محاولات التزوير… وأقوى من كل المنابر التي تحاول تغطية الفشل بسيلٍ من الاتهامات.
لهذا تُهاجَم “القوات”. لهذا تُشيطن. لأنها تُعرّي المنظومة. وتواجهها بالحقيقة التي تخافها أكثر من أي شيء آخر.
ومن دمّر الدولة لا يحق له أن يُحاضر الشرفاء. ومن أهدر المليارات لا يحق له مهاجمة أنقى الوزراء. ومن لم يرَ الدولة يومًا خارج عباءة السلاح… هو آخر من يحق له أن يفتح فمه على “القوات اللبنانية”.
الحقيقة باتت أقوى من كل أصوات “المنار”.
باحث سياسي وعسكري