IMLebanon

عندما يتحول التعايش إلى وهم أو استسلام

 

 

منذ وقف إطلاق النار في نوفمبر 2024، والغارات الجوية الإسرائيلية لا تزال تتواصل لتطال عمق الأراضي اللبنانية، نتيجة عدم التزام “حزب الله” بمضمون القرار 1701، ما يُنذر بتكرار كارثة صيف 2024. أما جهود تحقيق الاستقرار في لبنان أو إعادة الإعمار، فمصيرها الفشل، بطبيعة الحال، ما لم يُكبح منطق الازدواجية الذي سمح لـ “حزب الله” بالإفلات من المحاسبة؛ إذ يمارس دور الدولة داخل الدولة، ويزعم في الوقت نفسه أنه ضحيتها، رغم كونه أحد أبرز من قوّضها ولا يزال.

 

 

 

صحيح أنّ “حزب الله”، الذي تلقّى ضربات عسكرية من إسرائيل وتعرّض لضعف سياسي داخلي، بات مكشوفاً؛ لكنه لا يزال مُسلّحاً، ومشدوداً بأحكام أيديولوجيته، ويواصل الردّ على معارضيه بالطريقة الوحيدة التي يعرفها: عبر المزيد من الادعاءات الباطلة. غير أنها مجرّد آليات خطابية تهدف إلى إبقائه على قيد الحياة السياسية، تماماً كما تفعل أسطورة “المقاومة” التي تُشكّل حجر الزاوية في سرديته، وتُبرّر كل شيء: من مخزونات السلاح غير الشرعي، إلى الابتزاز السياسي.

 

 

 

لكن، على الرغم من تهاوي قناع “حزب الله”، لا تزال الدولة عاجزة أمام استراتيجيته السياسية التي ترتكز على التزامٍ عقائدي وفكري بالتضليل. ولأنه من الصعب تجاهل أربعة عقود من الأدلّة المُتراكمة عمداً، فإنّ السؤال لم يعد ما إذا كان “حزب الله” يعمل على ليّ الحقائق، بل ما إذا كنّا مُستعدّين للتوقّف عن التظاهر بغير ذلك.

 

 

 

خاصةً وأن قادة الأحزاب الشمولية لم يُخفوا يوماً مشاريعهم التدميرية والقمعيّة؛ فالكلام غالباً ما يكشف حقيقة النوايا، ومن الحكمة الإصغاء بتمعُّن إلى أقوالهم وعدم تجاهل علامات الإنذار المُبكر لما قد يُقدِمون عليه، أو لما قد لا يخطر في البال. وخير مثال على ذلك ما صرّح به مؤخراً أمين عام “حزب الله”، حين قال إنّ “الخيارات الأخرى موجودة، والحرب مع العدو لم تنتهِ لأنه لم يلتزم باتفاق وقف إطلاق النار”. ومن أخطر تلك “الخيارات”، استمرار رفض “حزب الله” تسليم سلاحه، بما يمثّله من تحدٍ مباشر لتطبيق القرارات الدولية.

 

 

 

بالطبع، لا جدوى من التوقّف عند مسألة الالتزام بوقف إطلاق النار، والتي لو كانت قائمة فعلاً من جانب “حزب الله”، لما وقعت الخروقات الإسرائيلية. فالأهمّ هو النتائج التي تترتّب على مواقف “حزب الله” المُصمّمة على تجاهل رأي شركائه في الوطن، والتي باتت تمُسّ بُنية لبنان نفسها؛ إذ إن نظامه الطائفي، الهشّ بطبيعته، بات مُهددًا بالانهيار الكامل تحت وطأة هذا النهج التصادمي.

 

 

 

وكيف يُمكن للتعايش السياسي أن يستقيم في غياب الثقة والصدق، وهما الركيزتان الأساسيتان لضمان استدامة هذا النظام الهشّ؟ وعليه، فإنّ اعتماد “حزب الله” بشكل منهجي على التقيّة والغموض الاستراتيجي، إلى جانب التلاعب بالسرديات، ناهيك عن الاستخدام العملي للتضليل، يجعل آليات التعايش من تفاوض وتسويات وتحقّق شبه مستحيلة.

 

 

 

وعندما نشير إلى مسألة التحقّق، فإننا نعني مثلًا الالتزام بوقف إطلاق النار أو تطبيق آلية نزع السلاح، وهي أمور لا تزال طهران ترفض السماح لـ”حزب الله” بالتقيّد بها. فبدون حدّ أدنى من المصداقية، تنتفي إمكانية التوصّل إلى أي نتيجة قابلة للتنفيذ. والتاريخ القريب خير شاهد: من قرار مجلس الأمن 1701 الصادر عام 2006، الذي قُوّض بسبب عدم امتثال “حزب الله”، إلى تدخّله العسكري في سوريا الذي خرق إعلان بعبدا عام 2012، بعد أن كرّست هذه الوثيقة حياد لبنان. مروراً باتفاق وقف إطلاق النار الأخير، حيث بات الالتزام به انتقائياً وتكتيكياً لا استراتيجياً. إضافة إلى ترويج ادعاءات دعم الإصلاح في ما هو عملياً يحمي شبكة النخبة الفاسدة التي تكرّس سلطته.

 

في هذا السياق، يغدو التعايش شكليّاً لا جوهريّاً، أشبه بواجهة سياسية مُتداعية تقوم على عدم اليقين وغياب الثقة، خشية أن يفقد لبنان رمزيّته كـ”رسالة”، حتى ولو كانت خاوية من المضمون، كما هي الحال منذ مدّة. لكن إن واصلت السلطات اللبنانية تجاهل حقيقة ما يقوم به “حزب الله”، فإنّ التعايش سيتحوّل إلى شكل من أشكال الاستسلام أو الوهم الوطني، وهذا أمر سيواجه بالرفض، وفي كلتا الحالتين ستكون الخسارة فادحة لفكرة لبنان نفسها.