IMLebanon

إرباك حزب الله بين خصومه وغياب الاستراتيجية الداخلية

 

 

ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي تؤلّف فيها حكومة، ولا هي المرة الأولى التي يتعثر فيها تأليف الحكومة. لكن من المفيد التذكير بأن الأزمة السياسية والمالية والاقتصادية انفجرت خلال وجود حكومة سياسية جامعة تضم كل المكونات الرئيسية، وفي ظل عهد رئاسي وتسوية متكاملة. هذا يعني أن أي حكومة بالأسماء المطروحة حالياً، وهي كناية عن مجموعة مستشارين صف أول أو ثانٍ، وليست حكومة اختصاصيين مستقلين من درجة رفيعة، نسخة طبق الأصل عن القوى السياسية المسؤولة بالتكافل مع السلطة المالية والمصرفية عن هذا المسار الذي أوصل لبنان واللبنانيين الى الإفلاس. واستطراداً يعني أن المتظاهرين متجهون الى تصعيد موقفهم الأساسي الذي انطلقوا منه في رفض المسار السياسي والمالي، في مقابل تضافر معظم القوى السياسية والأمنية والإعلامية لمواجهتهم والدفاع فقط عن سياسات المصارف ومصرف لبنان بحجة الحفاظ على صورة الكيان وتاريخه.

 

هكذا كشفت القوى السياسية عن وجهها في اليومين الماضيين، بعدما تيقّنت أن هناك حركة جدية في رفض الحكومة المزيفة الجديدة، وفي استهداف المصارف. وبدأت تحركاً مضاداً لتخفيف الأضرار والشروط والشروط المضادة لفرض حكومة بالتي هي أحسن. هكذا تناغم الخصمان اللدودان الرئيس نبيه بري ورئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل، وهكذا جرت محاولات إقناع الرئيس المكلف حسان دياب. لكن السؤال المركزي يبقى حول موقع حزب الله من كل ما يجري.

كل المعلومات الموثوقة تتحدث عن «جفاء» بين حزب الله والتيار الوطني الحر، واستياء الحزب من أداء التيار في مقاربة ملف الحكومة، يعززه أيضاً أن رئيس الجمهورية ميشال عون لم يأخذ في الاعتبار الوضع الإقليمي، ولا حساسية وضع الحزب حالياً في الانصراف الى متابعة تطورات المنطقة، قبل اغتيال الفريق قاسم سليماني وبعده. بالنسبة الى التيار الوطني الحر، فإن عون سلّف الحزب كثيراً، لكن الحزب ردّ جميل عون أكثر من مرة، ليس أقلها إبقاء الفراغ الرئاسي أشهراً طويلة حتى انتخابه رئيساً للجمهورية. لكن هناك من يعتبر أن الحزب لا يزال مديوناً له وأنه، أي عون، لا يزال قادراً في لحظة حساسة كالتي يمر بها الحزب حالياً، على استمرار المكابرة ورفع سقوف الشروط، مطمئنّاً الى أن حلفاءه لن ينقلبوا عليه. ويلتقي العهد مع بري عند هذه النقطة، لأن كل واحد منهما لديه توقيت مناسب لفرض آليته في تحصيل «حقوقه»، وهكذا يستفيد الطرفان في شكل متواز من الوضع الإقليمي والأخطار الآتية على المنطقة لتعزيز أوراقهما الداخلية.

في المقابل، لم يحدد الحزب بوضوح ما هي خطته للخروج من الأزمة الحالية، بعدما ظهر في لحظات أساسية متراجعاً عن مقاربة الملف الداخلي بالحزم الذي وعد به. مسار الحزب منذ أن أصبح في قلب إدارة الحكم، لم يعد في القوة نفسها التي يتحول فيها لاعباً إقليمياً منذ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، ثم دخوله الى سوريا وتوسّع دوره في المنطقة. فهو حين قرر أن يعود الى الداخل ويحدد استراتيجيته قبل الانتخابات النيابية وفرض شروطه في الحكومة وتغيير معادلة ترك الاقتصاد للقوى السياسية الأخرى التي يحمّلها مسؤولية التدهور الحالي، والاكتفاء بدور المقاومة، والقيام بدور في الملف الاقتصادي والمالي والمحاسبة ومحاربة الفساد، إنما رفع السقف عالياً في إظهار بنية متكاملة لمستقبل اقتصادي، تزامناً مع بدء الحديث عن العقوبات الأميركية عليه وفرض آليات مصرفية لتطويقه. حتى إنه بتمسكه بوزارة الصحة حدد أيضاَ مساراً مختلفاً في التعامل مع وزارة خدماتية من الدرجة الأولى، إضافة الى كلام عن ضرورة الانفتاح الاقتصادي على أسواق جديدة كإيران والصين.

مع انفجار الأزمة الحالية قبل ثلاثة أشهر، بدت هذه الاستراتيجية مبهمة، كما ظهر الإرباك على مواقف الحزب في تعامله مع التطورات الشعبية، رغم أنه ظل يردّد تبنّيه المطالب من دون السماح بقطع الطرق. لكن التعامل مع المتظاهرين أمر يختلف عن وضع إطار شامل لحل الأزمة الكبرى المتفرعة منها أزمات معيشية خانقة تطاول جميع اللبنانيين من دون استثناء، على اختلاف انتماءاتهم السياسية بما فيها جمهوره، بغض النظر عن مسار الحزب المالي الخاص الذي سبق أن تحدث عنه الأمين العام للحزب. إرباك الحزب قابلته اتهامات معارضيه له ولا سيما المنتمين الى صفوف فريق 14 آذار بأن الحراك الشعبي أفشل مخططه في استهداف المصارف التي تنفذ شروطاً أميركية في شأن العقوبات عليه. وقد تكررت هذه الاتهامات في الساعات الأخيرة بأنه وراء التعرض للمصارف لغاية في نفس يعقوب، رغم كل محاولات المتظاهرين الحقيقيين (ما عدا قلة منهم أظهرت حقيقة ولائها ومعارضتها) تبني التظاهرة في الحمرا ورفضهم تعدّي رجال قوى الأمن ضد المتظاهرين مهما كان انتماؤهم المذهبي والطائفي.

 

رغم تحول الأزمة إلى أزمة سياسية كبرى باستقالة حكومة الرئيس سعد الحريري والمطبات التي رافقت تسمية خلف له، لم يتطور موقف الحزب في الخروج من دائرة وضَعه فيها حلفاؤه قبل خصومه، ولا سيما أنه ترك لهم ملف إدارة المفاوضات الحكومية، لتقديم صورة سياسية واقتصادية أوسع، على غرار ما فعل في الملف الإقليمي. تكاد تصبح مشكلة حقيقية أن يصبح الحزب أسير هذا الملف وحده من دون أن يتطور موقعه السياسي في الوضع الحكومي والمالي والاقتصادي، بالاندفاعة نفسها، وبتقديم أفق للحل، تتعدى تحقيق مصالح فئة سياسية مهما كانت الصلة بها قوية. إذ يصبح دوره محصوراً بالرفض والتعطيل ليس إلا، وخصوصاً إذا ترافق ذلك مع حلفاء طامحين لفرض إيقاعهم الخاص، وتأمين استمرارية وجودهم في الحكومات والوزارات ومنابع الثروات. ومراوحة الحزب في هذا المكان تكشف خللاً داخلياً، يقربه من بعض قوى السلطة، ويعيده خطوة الى الوراء، فيتقلص دوره الداخلي، المتهم من خصومه بأنه مؤثّر كامل في الملف اللبناني، الى حدود التأثير في مناطق نفوذه فحسب. لأن ما يجري في الشارع، حدد منذ 17 تشرين الأول مناطق نفوذ جديدة، ودوائر سياسية وشعبية أكثر فعالية، كما كشف عورات أحزاب وقوى سياسية لم ترقَ الى مستوى الحدث السياسي والاقتصادي والمالي، إن في تقديمها مصالحها على مصالح البلد أو في تجاهلها وضعَ الناس ومآسيهم المتزايدة على أبواب المستشفيات والمصارف وارتفاع نسبة العاطلين عن العمل والمسارعين الى تقديم طلبات هجرة من كل الطوائف.