IMLebanon

الهوية أولًا والسلاح دومًا

 

تكمن أهمية مقاربة النقاش حول هوية “حزب الله”، وحدود الحوار السياسي مع باقي الأطراف اللبنانية، في إبراز بُنيته السيكولوجية التي تتعارض مع مبدأ التعدّدية. وفي هذا السياق، يمكن الاستفادة من الإطار النظري الذي تقدّمه شانتال موف، والذي يميّز بين السياسة التعدّدية القائمة على الاختلاف، وبين منطق العداء الذي تتبناه القوى ذات النزعة الشمولية، بما في ذلك حاليًا بعض الفاعلين غير الدولتيين.

 

فـ “حزب الله” ليس مُجرّد تنظيم سياسي أو مشروع أيديولوجي، بل يُجسّد نموذجًا مثاليًا للانصهار النفسي الكامل، حيث لا يكتفي الفرد بتأييد حزبه، بل يذوب فيه إلى درجة يفقد معها التمييز بين ذاته وبين “المقاومة”، كما توضحه “نظرية دمج الهوية”. فالفرد لا يكتفي باتباع مجموعته السياسية، بل يتماهى معها كليًا، ويُفسَّر أي هجوم عليها بوصفه هجومًا مباشرًا على الذات.

 

في نفس الوقت، لا يرى أنصار “حزب الله” في خصومهم السياسيين مواطنين شركاء في الوطن، بل أعداء معنويين وتهديدات وجودية. وهذه ليست مُجرّد حالة عابرة من الاستقطاب الأيديولوجي، بل هي تعبير عن هوية جماعية مُغلقة ومُحصّنة ضدّ الاختلاف. وفي ظلّ هذه المنظومة، لا مكان للتفاوض السياسي ولا جدوى منه، لأن ما يُدافَع عنه لا يُختزل في موقف سياسي، بل يُنظر إليه كقضية مُقدّسة لا تُمسّ. وقد ذكّرنا مؤخرًا أمين عام “حزب الله” بأن “الملائكة تقاتل معنا”، في محاولة لربط موقف “المقاومة” بعامل غيبي وشرف إلهي، بما يُكسبها طابعًا قدسيًا يُحصّنها ضدّ أي نقد.

المُهمّ في الهوية السياسية “المُقدّسة”هو اعتبار التنازل بمثابة خيانة، وذلك وفقًا لما تبيّنه نظرية “القيم المقدّسة”. والنتيجة الحتمية لذلك هي الجمود والاستبداد الأخلاقي في السلوك السياسي، إذ لا تُعدّ الهوية “المُقدّسة” إقصائية فحسب، بل تتعارض وجوديًا مع المبادئ الأساسية للتعايش والتعدّدية.

 

باختصار، نحن أمام الاستقطاب الوجداني في أنقى صوره، أو ما يُسمّيه علماء النفس “التعصّب التعبيري”، حيث لا يكون الهدف التأثير في السياسة بِحدّ ذاتها، بل فرض الهيمنة العاطفية. فـ “حزب الله” لا يُقدّم الخدمات أو السلاح فقط، بعدما سلب الدولة شرعية احتكار العنف، بل يقدّم لمجتمعه سردية متكاملة تقوم على ثُلاثية: الضحية، و”المقاومة”، والرسالة الإلهية. وهذه السردية مُشفّرة عاطفيًا، بحيث يستحيل تفكيكها أو تجاوزها عِبر التفاوض العقلاني.

 

من جهة أخرى، يُكرّس التضليل والتخندق المعرفي داخل بيئة “حزب الله” حالة من الانقسام الحاد، من خلال وسائل إعلامه وشبكاته التعليمية. يؤدي هذا الواقع إلى تحصين إدراكي ضد السرديات البديلة، إذ عندما تتعارض الحقائق مع معتقدات الجماعة، يتمّ رفضها أو تبريرها أو مهاجمتها مباشرة. كما يُنظر إلى أي تشكيك في سردية “حزب الله” على أنه عدوان على الجماعة نفسها. وقد بيّنت عقود من الأبحاث أن هذا السلوك لا ينبع من الجهل، بل من حاجة عميقة إلى حماية الهوية، حيث يُصبح الحوار غير مُجدٍ، بل مفاقمًا للانقسام بدلاً من رأبه.

 

من هنا يمكن فهم فشل مبادرات الحوار الوطني، ومشاريع المصالحة، ومحاولات “التفاهم” مع “حزب الله”. فهذه المبادرات تنطلق من قراءة خاطئة لطبيعة سلوكه السياسي. إذ إن التعامل مع جماعة لا يتشارك أفرادها الحقيقة، بل الهوية، يجعل الفشل نتيجة متوقعة، لأن هذه المقاربات تفترض وجود عقلانية تداولية لا أساس لها في هذا السياق. ولهذا السبب، تتعثّر جميع مبادرات المصالحة الوطنية، لأنها تفترض أن “حزب الله” فاعل عقلاني في نظام تعدّدي قائم على التسوية، في حين أنه يؤسّس وجوده على هوية مغلقة، وعلى عنف مؤدلج يُقدَّم كجزء من رسالة مقدّسة. ومن هنا، فإن أي تنازل من جانبه يستدعي تفكيك العَقد الذي يربطه بقاعدته، وبطبيعة الحال، بإيران، وهذا لن يحصل.

 

لذلك، وصلت الأمور إلى طريق مسدود. ومن الأسباب التي ساهمت أيضًا في ذلك، ادّعاء “حزب الله” امتلاك طابعٍ أخلاقيٍّ مُطلق، وتمييزه بين من ينتمي إلى الجماعة ويتبنّى هويتها “الأخلاقية المتفوّقة”، ومن هو خارجها. ومن الطبيعي، في ظل هذا التأطير، أن يفضي الأمر إلى إنكار التنوّع السياسي وغياب الاعتراف المتبادل داخل النظام التعددي اللبناني، ما يعني عمليًا تقويض أسس التعايش التي يقوم عليها هذا النظام. وقد أثبت علم النفس السياسي الحديث أن هذا التعايش يُصبح شبه مستحيل في ظل ثوابت من هذا النوع.

 

أخيرًا، تُشكّل مسألة السلاح، بالنسبة إلى “حزب الله”، معادلة وجودية في مواجهة مشروع يَنظر إليه كتهديد يسعى لإقصائه من الخارطة السياسية، أو هكذا يُبرَّر الأمر. كما أن السلاح لا يُقدَّم كأداة دفاعية فحسب، بل كعنصر تأسيسي في هويته، ما يعني أن التمسّك به يتجاوز البُعد الأمني ليصبح تمسّكًا رمزيًا ووجوديًا. وبالتالي، فإن من يرى في سلاحه ضرورة وجودية وضمانة لشرعيته، لن يكون مُستعدًّا للتخلّي عنه بسهولة. لكن السؤال الجوهري يبقى: إلى أي مدى يستطيع النظام التعدّدي اللبناني الصمود أمام تقويض ممنهج، يُمارسه فاعل سياسي يطرح سلاحه كهويّة لا كأداة؟