IMLebanon

حسين يوسف.. اعذرنا

 

كبير حسين يوسف في حزنه، كما في سنوات انتظاره، كما في تلقيه خبر استشهاد العسكريين المخطوفين وبينهم ابنه، كما في إيمانه بالوطن، كما في مداخلته التي أطل بها على اللبنانيين في برنامج «بموضوعية» مع الزميل وليد عبود. وكان يمكن لحرقة قلب والد على ابنه أن تفجّر ذلك الوجع الذي حفر خنادق في روحه وخديه وصوته وجسده، هو الذي يحق له أكثر من غيره أن يبكي ويتأوه بعد طول مكابرة وثبات، لكنه اختار طريق ابنه الشهيد محمد في أن يكون تلك الشمعة التي تحترق من أجل أن لا يقال يوماً: ثمة جندي نزع عنه بزة الجيش والتحق بالأعداء لأنه يخشى الموت، وعلى خيار الابن عض يوسف على الجرح في إطلالته، رافضاً الدخول في حسابات ضيقة تأخذ الى كيل الاتهامات وتصفية الحسابات. فكانت رسالته بحجم القضية التي لأجلها يسقط الشهداء، ولأجلها تولد الأوطان من رحم دموع الأمهات، مدوراً حزنه مثل طابة يلقي بها في وجه كل من تسوّل له نفسه اللعب بين الألغام، وخارج اللعبة بقي الأب الصابر متنزهاً عن تفاصيل يأتي البحث فيها لاحقاً، مقدماً بنفسه العزاء لكل لبناني حضر الى ساحة رياض الصلح متضامناً، ولكل لبناني تعاطف بالكلمة وبالدمعة وبالموقف، وأكثر من ذلك فإنه آثر أن يكون الصوت الذي على الرغم من تهدجه بقي يجمع ولا يفرق، معيداً تصويب القضية والسجالات الى بوصلة الوطن من باب قوله: «عزاؤنا بأن ملف العسكريين التسعة وحّد الشعب اللبناني، وعزاؤنا بأن جنودنا لم يرهبهم الموت فاختاروه طواعية عوضاً عن انشقاقات كان من الممكن أن تحمل الخزي والعار لأهاليهم وللمؤسسة العسكرية التي حملتهم مسؤولية الشرف والتضحية والوفاء».

وفي صحوة الشعب والايمان بالمؤسسة العسكرية ثابتتان يرتقي بهما وطن آمن به حسين يوسف، وقد كان جرحه كبيراً في الثاني من آب من العام 2014. يومها حملوا اليه خبر خطف ابنه، فأحس «ظهري انكسر»، لكنه تجاسر معللاً: «كان يجب أن أري خاطفيه السود أن لابني ظهراً»، أو هكذا يوصّف أحواله التي أكثرها إيلاماً تعود الى أربعة أشهر بعد الخطف، وكان سمح الخاطفون لأهالي العسكريين بزيارة أبنائهم في الجرود، ولأن حسين كان الناطق باسم الأهالي خشي أن يحمله الخاطفون رسائل تحت وطأة التهديد بابنه، فاختار أن لا يلبي الدعوة مفوتاً فرصة الوداع الاخيرة على أن تدفعه أبوته الى خيانة الوطن، ومثل تلك التضحية تستحق أن يتوحد الشعب اللبناني من حولها بدلاً من الدخول في موجات تسعى الى الفتنة والتفرقة، وتستأهل أيضاً الاصغاء للأب الصابر الذي لم يعتكف الى حزنه وإنما حمل الهاتف واختار الهواء المفتوح، ليؤكد: «نحنا بأرض مزروعة فتنة، ما بتمنى تكون قضية العسكريين انفجار وتعمل فتنة. بتمنى تكون قضية أولادنا الذين ارتقوا الى الشهادة بمثابة الصدمة لكل مواطن لبناني من أجل صحوته. في هذا البلد ما فينا إلا نكون كلنا مع بعض وما لازم نصغي ونستمع الا للعقل في مواجهة الفتنة. أنا ما بشلح توبي اللبناني. ابني اختار يموت ويفدي بدمه كل أهله وبلدته ووطنه وابنه الذي كان في عمر الشهرين في حينها. كل عسكري يقف على الجبهة هو شرفنا وكرامتنا والله لا يضيع حق».

ولأنه حسين يوسف، نموذج الأب اللبناني الصابر الذي ارتضى النوم على سرير حديدي لثلاث سنوات في خيمة الأهالي في رياض الصلح من أجل أن لا يضيع حق الجنود المخطوفين، حبذا لو نحترم حزنه ودمعة في عينيه وننحني لكلماته: «ماذا أنا فاعل يا محمّد بعد انفضاض الجمع، وانطفاء الضوء، وحلول الصمت والظلام؟. ماذا أنا فاعل بأشيائك وذكرياتك وخوفك من الأشباح؟. ماذا أنا فاعل بأشباحي، يا بنيّ، وبتصوراتي إياك، وأنت بين أيديهم، نزاعك الأخير، وحيداً، وبعيداً، وصغيراً كملاك؟».

وننحني للخاتمة المرة: «أخيراً، تخلّصتَ من خاطفيك، يا بطلي الصغير، وتخلّصتَ من الجميع. أنتَ يا محمد يوسف، ويا خالد مقبل حسن، ويا محمود عمّار، ويا عبد الرحيم دياب، ويا إبراهيم مغيط، ويا سيف ذبيان، ويا حسين الحاج حسن، ويا مصطفى وهبي، ويا علي زيد المصري. أنتم يا إخوة محمد، وموتكم الذي في رقابهم جميعاً».