IMLebanon

السلاح والدولة في لبنان: مفترق طرق حاسم بعد التحوّلات الإقليمية

 

 

 

في خضم التحوّلات السياسية والدبلوماسية المتسارعة، يعيش لبنان صراعاً غير معلن بين منطق «الساحة» ومنطق «الدولة». الأول يتجسّد في قوى ترى في لبنان ساحة مواجهة أو ورقة ضغط ضمن صراعات إقليمية، وتتمسّك بسلاح خارج إطار المؤسسات الرسمية. أما الثاني، فيمثل نهج الدولة التي تسعى لاحتكار السلاح في يدها وحدها، باعتبار ذلك شرطاً لبناء دولة قوية قادرة على اتخاذ قراراتها السيادية. هذا الصراع ليس جديداً، لكنه اليوم يتأثّر بعمق بالتحوّلات الجيوسياسية التي يشهدها الشرق الأوسط، والتي تعيد رسم خرائط النفوذ وتمنح لبنان فرصة تاريخية لإعادة تعريف دوره.

رغم أن التوتر في الجنوب اللبناني يعود إلى عقود، فإن ذروته الأخيرة كانت في الحرب بين حزب الله وإسرائيل (2023–2024)، التي انتهت باتفاق العام 2024 دون حسم مسألة السلاح. هذه الحرب تزامنت مع تحوّلات كبرى في الإقليم، أبرزها:

• تراجع النفوذ الإيراني نتيجة ما لحق المحور الذي تقوده من ضربات، ما انعكس على قدرة إيران في تمويل ودعم حلفائها.

• التقارب العربي – التركي، الذي أرسى مقاربة مشتركة لخفض التوترات، وأثّر على خطوط الإمداد الإقليمية لحزب الله، خصوصاً مع سقوط نظام الأسد.

يرى حزب الله أن سلاحه ركيزة أساسية للمقاومة ضد إسرائيل، وحق مشروع في ظل استمرار الاحتلال والاعتداءات الإسرائيلية. ويرفض أي مبادرة لتسليمه أو حصره بيد الدولة دون ضمانات سياسية، معتبراً ذلك تهديداً مباشراً لأمن لبنان. ومع تبدّل الموازين الإقليمية وتراجع الإمداد اللوجستي عبر سوريا، باتت قدرة الحزب على المناورة أقل من السابق.

في المقابل، ترى الحكومة اللبنانية أن حصر السلاح بيد الدولة شرط لا غنى عنه لبناء دولة طبيعية، قادرة على اتخاذ قرارات الحرب والسلم بعيداً عن تأثير القوى الخارجية. وقد أكد الرئيس جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام أن عام 2025 سيكون «عام احتكار الدولة للسلاح»، من خلال الحوار لا المواجهة، وبخطوات تدريجية تضمن الانتقال من منطق الساحة إلى منطق الدولة دون هزات كبرى.

كان رئيس الحكومة قد أعلن أن 80% من السلاح في الجنوب بات تحت سيطرة الدولة، مؤكداً أن الهدف هو احتكار السلاح في كامل الأراضي اللبنانية.

وفي شهر آب 2025: صوّت واتخذ مجلس الوزراء قراراً بتفويض الجيش وضع خطة لحصر السلاح في يد ست مؤسسات أمنية رسمية فقط، قبل نهاية العام.

هذه الخطوات لاقت دعماً دولياً وعربياً واضحاً، حيث اعتبرتها بعض العواصم العربية «محورية» لتعزيز الاستقرار وجذب الاستثمارات.

بينما ترى الدولة أن هذه الإجراءات تعزز سيادتها واستقلاليتها، يعتبرها حزب الله خضوعاً للضغوط الأميركية والإسرائيلية، ويحذّر من أن تنفيذها المباشر قد يشعل نزاعات داخلية. وهنا يبرز التحدّي الأكبر: كيفية التوفيق بين متطلبات السيادة ومخاوف بيئات تعتبر السلاح ضمانة للأمن الوطني.

الحرب الأخيرة مع إسرائيل، وتراجع الدور السوري والإيراني في لبنان، وعودة بعض الدول العربية إلى لعب دور الوسيط، كلها عوامل أضعفت موقع حزب الله، وفي المقابل منحت الدولة فرصة لفرض حضورها الأمني والسياسي.

يسعى رئيس الجمهورية إلى إدارة مفاوضات مباشرة مع حزب الله، بهدف الانتقال المنظم نحو منطق الدولة وتفادي الانزلاق إلى مواجهة داخلية. وبالتوازي، كُلّف الجيش بإعداد خطة تنفيذية لحصر السلاح قبل نهاية العام، ضمن إطار مؤسساتي يراعي التوازنات الوطنية.

كان منطق الساحة يستمدّ قوته سابقاً من بيئة إقليمية مضطربة مليئة بالصراعات المفتوحة، لكن المشهد تغيّر. عوامل عدة أعادت تعريف أدوار اللاعبين المحليين. لم يعد لبنان ورقة بيد محور إقليمي كما كان، بل أصبح ساحة اختبار لإمكانية تحول دولة هشّة إلى دولة مكتملة السيادة.

لبنان أمام مفترق طرق، وأمامه فرصة تاريخية لكي يصبح نموذجاً للتعافي السياسي في الشرق الأوسط، حيث تخرج الدولة من عباءة الصراعات الإقليمية لتصبح فاعلاً مستقلاً، لا مجرد ساحة لتصفية الحسابات.