IMLebanon

موسم الهجرة من عين الحلوة: وداعاً حق العودة!

لم تكن المعركة الأخيرة بين حركة فتح والقوى المتشددة في عين الحلوة سوى فاتحة لازدياد حركة النزوح من المخيم ومخيمات لبنان إلى أوروبا، عبر طرق جديدة؛ أبرزها إلى روسيا ثم النرويج. الفلسطينيون يخشون تجدّد الحرب ومساعدات الاونروا تتلاشى والواقع اللبناني يتفاقم. هل يبقى عين الحلوة رمزاً للشتات الفلسطيني؟

«الطَّبُّونيه» في سيارة المرسيدس «اللَّف» ذات اللوحة الحمراء، تحتاج إلى جهد كي تفتح. فالعمر بائنٌ على السيارة أكثر من الشيخوخة التي أنهكت السائق، وجندي الجيش اللبناني على حاجز «الحسبة» عند المدخل الشمالي لمخيم عين الحلوة، يستخدم قوة زنديه، والسائق الكهل ينتظر قربه بخجل. «الحمد لله… الحمد لله» يكرّرها الجندي والفلسطيني المُتعب، وينصرف كلاهما لمتابعة يومٍ، لم يرد فيه اسم عين الحلوة في وسائل الإعلام… ربما.

الساعة تشير إلى الواحدة والنصف بعد الظهر، ورذاذ المطر الخفيف يكاد يملأ الحفر التي تغطي الشوارع عوضاً عن الاسفلت. الرجال والنساء في حي صفورية يلتزمون السير على ضفاف الأزقة وأشباه الشوارع، خشية الماء القذر المتطاير من مرور الدراجات النارية المسرعة، والأولاد لا يكترثون لكل هذه الطقوس. بعد المطر، تجد بلدة صفورية مرسومة على حيطان بيوت الحي المتلاصقة العشوائية بطلاءٍ برّاق، بيوتاً وأشجاراً وذكريات حملها الخارجون إلى الشتات في تغريبة 1948 وقيام دولة إسرائيل، من قضاء الناصرة الفلسطيني، إلى جنوب لبنان. «التمشاية» الأولى مع عاهد ابن صفورية (اسم مستعار ـــ أحد المقرّبين من القيادي في حركة فتح العقيد محمود عيسى الملقّب باللينو)، وإلقاء السلام على شابين قرب مسجد الصحابي خالد بن الوليد يبدو مدخلاً على حديثهما، عن الرحيل إلى بلاد الله الباردة، النرويج والسويد والدنمارك وألمانيا، في قوافل الشتات الجديد.

ــــ «شو مَالْكُم؟، بعد ما رحتوش، ما كل المخيم بيمشي»، يقول عاهد.

ــــ «يلّا قَرَّبِت، كُنا ماشيين مبارح بس ما ضل محلّ، مستعجل علينا؟!»، يرد أحد الشابين.

ـــ لا، بس بسأل، دخلكوا إنتو رايحين عن طريق سوريا أو البحر؟

ـــ لا هَيْ ولا هَيْ، عن طريق روسيا.

«سمعت؟! ما قلتلك المخيم فضي» يُسائل عاهد ضيفه، ويودّعان الشابين ويكملان المسير.

يشعل محمد سيجارة «سيدرز»، قبل أن يبدأ السيرة الذاتية المختصرة. ابن صفورية، وقاطن حي عمقا، يقضي وقته بين «نوبة الحرس» و«الإنترنت»، «بحب فلسطين وكنت بديش هاجر، بس شو بدي ضل أعمل هون، ما تركولناش خرم إبرة نتنفس منه. يا أخي بدي أروح وآجي على كيفي، أنا أصلاً بطلت إنزل على الروشة». هي المرة الثالثة التي يخفق فيها المراهق بالهرب، مرة عبر مرفأ طرابلس، ومرة عند المصنع السوري ـــ اللبناني، ومرّة لأن «النقلة» اكتملت، ولم يعد له مكان. أكثر من 30 شاباً فلسطينياً يخرجون يومياً من مخيّم عين الحلوة، إلى… غير رجعة. يستيقظ أحدهم ليكتشف أن صديقه الصدوق رحل سرّاً من دون أن يبلغه، «بَلْقَطُه على واتس أب بعد كم يوم»، يضحك محمد. «يهربون» هو أقرب وصف، من الفقر والبطالة وانعدام الأمل والنظرة الأمنية تجاه الفلسطيني ورصاص الصدفة، ومن بيوت الزينكو والأحلام التي تولد وتموت على زوايا الأزقة. فموجة اللجوء السوري الأخيرة إلى أوروبا، التي يضجّ بها العالم، لا تطال السوريين وحدهم، إنها تقضم عين الحلوة ومخيّمات الفلسطينيين في كلّ لبنان على عجل، كما تقضمها الأحداث الأمنية ببطء.

في الآونة الأخيرة، ازداد زخم الخروج الفلسطيني من عين الحلوة. ويقدّر مسؤولون في عين الحلوة أن أكثر من 4000 شاب غادروا في الشهرين الأخيرين، من بينهم بعض العائلات، كعائلة الصحافي خليل العلي، الذي رحل مع أكثر من 5 أفراد من عائلته. يعتمد المهرّبون طريقين للوصول إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا. الطريق الأول عبر البحر من طرابلس، وهذا الطريق أُقفل جزئياً مع بدء الشتاء وارتفاع الماء، بكلفة تناهز 1400 دولار أميركي، «واصل من عين الحلوة على تركيا»، فيما يمرّ الطريق الثاني عبر الأراضي السورية بكلفة أقل بقليل، يبدأ بالتسلل عبر الحدود والعبور على حواجز الجيش السوري بهويات مزوّرة وسماسرة سوريين، وصولاً إلى حماه. ومن حماه إلى الأرياف الشمالية عبر حواجز «جبهة النصرة» و«الجيش الحر» و«تنظيم الدولة الإسلامية»، ومنها إلى تركيا.

أمّا الطريق الثالث، فيمرّ عبر الأراضي الروسية إلى النرويج، وهي أكثر الطرق أمناً. إذ «استهدى» السماسرة على الـ«فيزا» الروسية بكلفة 450 دولاراً. يحصل اللاجئ الفلسطيني على الفيزا، يبيع ما يملك، يوضّب بدلين اثنين من ثيابه في حقيبة، ويقطع تذكرة لوجهة واحدة. وعلى الحدود الروسية ـــ النرويجية، ينتظر السماسرة البيض والعرب ومعهم دراجات هوائية، يبيعونها للاجئين ويدلونهم على أقرب الطرق، وهناك، بيدبّر الله! رزق جديد في البلاد الجديدة. ماذا عن الباقين هنا؟ الباقون لا يملكون مالاً ولا ما يبيعون!

«أطال الله بعمر الهدنة»

من صفورية إلى الشارع التحتاني إلى سوق الخضر، لا يوفّر حسن (اسم مستعار ـــ أحد المقربين من مسؤول حركة حماس في المخيم) أحداً من إلقاء السلام عليه. فالمخيّم ليس موحشاً لكي يمرّ فيه أبناؤه كالغرباء. وسوق الخضر، نقل إليه الفلسطينيون السوريون روح مخيّم اليرموك جنوب دمشق حين خرجوا عُراةً إلّا من ثيابهم عام 2012 ولجأوا، مرة جديدة، إلى هنا، فبات سوقاً للثياب والأطعمة والأدوات المنزلية، وزاده سقف الحديد الجديد خاصية من خواص الأسواق الدمشقية. أكثر من 6000 فلسطيني من اليرموك تركوا عين الحلوة في الأشهر الأخيرة إلى أوروبا.

ينتظر السوق فعالية «شهر التسوق» الشهر المقبل، هو مشروع للجان الأحياء ولجان التجار في المخيّم. «ما تموت قبل ما يجيك الموت»، يقول أبو عبدالله، مسؤول اللجنة الشعبية في حي الطوارئ وحي التعمير عن المناسبة. خضرٌ وفاكهةٌ وقطنيات وشابٌ يبيع القهوة المُرّة وعلى خصره مسدّس، لكن الحديث واحد: هل نلحق الهروب قبل الخراب الأخير؟!

الكلام في مضافة اللّينو يشبه ذلك الذي يودّ مسؤول حركة حماس في المخيم أبو أحمد فضل قوله عن الأوضاع حين زيارته في منزله. المسؤولان يصرّحان بـ«عمومية»، مراعاةً لأجواء الهدنة التي لا تزال مستمرة، منذ معارك عيد الأضحى بين عناصر فتحاوية محسوبة على اللينو وقوات الأمن الوطني الفلسطيني من جهة، والجماعات المتشددة المنضوية تحت راية جماعة «الشباب المسلم» من جهة ثانية، وأبرز قيادييها جمال حمد وأسامة الشهابي وبلال بدر وهيثم الشعبي.

في أواخر آب الماضي، أطلق مسلحون متشددون النار على العقيد في فتح أبو أشرف العرموشي في حي حطّين جنوب المخيم، بعد أكثر من 23 عملية اغتيال طاولت قيادات وعناصر في فتح، بينهم العقيد أبو طلال الأردني، الذي قُتل نهاية تموز الماضي. أشعل إطلاق النار على العرموشي شرارة حرب صغيرة بين فتح والإسلاميين لأيام، نتيجتها المباشرة: حوالى 17 قتيلاً وجريحاً، احتراق 17 بيتاً، خراب حوالى 1000 خزّان مياه، ودمار شبكة الإنارة والكهرباء في مخيم الطوارئ.

بالنسبة للينو، الحرب لم تنته في عين الحلوة طالما أن «الجماعات التكفيرية تريد التوسّع وتملك مشروعاً للسيطرة على المخيم وقتال فتح»، ولو أنه يعبّر الآن عن ارتياحه للهدوء الذي يطوّق المخيّم و«يريح الناس». أمّا أبو أحمد الفضل، فيقول إن «الجهود لا تهدأ لبسط الأمن في المخيّم وتهدئة الخواطر». لكنّ المسؤولين يقولان إن الخطر الأكبر الآن هو رحيل الفلسطينيين عن المخيّم. اللينو يقول إن «المخيم مستهدف دولياً لتهجيره وتدميره، وهو آخر شاهد على حقّ العودة، يقولون الاونروا لا تملك مالاً والعالم يدفع المليارات في سبيل التخريب فقط» وأبو أحمد يؤكّد أن «المطلوب هو رحيل الفلسطينيين، وما يحدث اليوم حدث بعد تل الزعتر ومخيم النبطية لكي ترتاح دولة اليهود». أمّا شكيب العينا، مسؤول حركة الجهاد الإسلامي في المخيّم، فيسمّي الأشياء بأسمائها: «إنهاء القضية الفلسطينية يبدأ بإنهاء ملفات اللجوء الفلسطيني وإلغاء حقّ العودة، وعين الحلوة آخر رموز الشتات الفلسطيني، فترتاح إسرائيل».

جميل. لكن ماذا يفعل الفلسطينيون؟ يتوافق المسؤولون الثلاثة على القول إن «الجميع يحاول الآن الحفاظ على الهدوء في المخيّم، وتفويت الفرصة على من يريد تهجير أهالي عين الحلوة بعيداً من هنا»… «أطال الله بعمر الهدنة».

«ما عاد ينعاش هون»

الجمعة صباحاً. يضع العقيد منير المقدح فنجان القهوة من يده، ويخرج لصلاة الجمعة في المسجد القريب في حي السكة. الأطفال المهجّرون من أحياء السبينة والحجر الأسود واليرموك يلعبون مع أولئك المولودين في عين الحلوة، ولا يتوقّفون عن الصراخ أثناء الخطبة، فيما يحاول مرافقو العقيد أبو خالد الشايب مسؤول الأمن الوطني في المخيم إسكاتهم. اللواء منير والعقيد خالد يكرّران كلام اللينو وفضل والعينا. المقدح يقول إنه دخل إلى المعركة الماضية مرغماً لأن الإسلاميين هم من بدأوا بالاعتداء، لكنّه يطمئن الآن إلى أحوال المخيّم، «حتى الإسلاميون يراعون الأوضاع الآن».

الجولة على الدراجة النارية خلف أبو عبدالله سلّوم على البيوت المحترقة تدمي القلب. منزل أحمد معين مصطفى مقابل مدرسة وكالة غوث اللاجئين «الأونروا» في الطوارئ أتت عليه النار. العريس الجديد الذي يعمل في المصاعد لم يبق له سوى رماد الأثاث، ولم يعوّض عليه أحد حتى الآن. أما في بيت بلال الصياح، والد ستة أطفال، فـ«طقم» الصالون الجديد يصلح للحرق من جديد في مدفأة، لا أكثر، والعائلة مشرّدة بين بيت الأهل وبيت حماها! أبو عبدالله يحوّل الأسى إلى نكتة: «في كم زلمة ومرا بالمخيم من اللي انحرقت بيوتهم، عم يجيبوا ولاد بالواتس أب، كل واحد ببيت!». وأبو عبدالله الذي يعرف أبناء المخيم واحداً واحداً، وعائلات حي الطوارئ أو «الكُم العتيق» الـ 338، وعائلات التعمير الـ 500 (التعمير منطقة مختلطة للبنانيين والفلسطينيين معاً) خفيف الظّل، كفلسطينيي المخيّمات عموماً، الذين يسخرون من كل شيء، بدءاً من أنفسهم وأحوال المخيمات وفلسطين، والفصائل! والآن من أكوام النفايات المكدّسة في شوارع لبنان. حتى القيادي في «الشباب المسلم» هيثم الشعبي، الرجل الضخم ذو اللحية الطويلة والعصا الرفيعة المكسوّة بالأبيض والأسود، حين ينهض عن زاوية الشارع ليستطلع هوية الزائر الغريب، لا يبدو التهديد في عينيه جديّاً، ويبتسم حين يؤكّد أبو عبدالله أن الزائر لا يشكّل خطراً.

كيف يمكن لفلسطيني أن يبقى لاجئاً في مخيّم كعين الحلوة؟ «شو أنا رح أبطل فلسطيني، بس يا أخي ما عاد ينعاش هون»، يقول عاهد. الانفجار يقلق أهالي المخيّم، وطريق الهروب من الجحيم مفتوح الآن، كما فُتح بعد تل الزعتر والنبطية ونهر البارد.

«الدولة» أضمن من «النصرة»

قبل حوالي أسبوع، نعت غالبية مساجد المخيّم حسن ميالي باسم «دولة الخلافة»، ابن المخيم الذي قتل إثر غارة روسية على ريف حلب. في المخيم حسن ميالي هو «ابن فلان»، ولا يستطيع مشايخ المساجد الوقوف في وجه عائلته ورفض نعيه، فيما يقلق استخبارات الجيش وحركة فتح أن تنعي المساجد «داعشياً»، وحزب الله كذلك. الكلام كثيرٌ عن مبايعات لـ«داعش» في المخيم. يُقال إن «جهادياً» اسمه ع. م. هو الآن أمير التنظيم الجديد في المخيم وأنه أرسل بطلبٍ قبل نحو شهرٍ ونصف شهر لقياديين في التنظيم داخل سوريا لمدّه بالعناصر الجديدة اللازمة للسيطرة على المخيم. إلّا أن مصادر مقرّبة من المتشددين أكّدت لـ«الأخبار» أن ع. م. هو أحد وجوه التنظيم وليس الأمير. وبحسب أكثر من مصدر، فإن من بايع «النصرة» من «الجهاديين» في المخيم، يتجّه الآن إلى مبايعة «داعش» على قاعدة أن «العمل مع النصرة لم يأت بنتيجة»، وأن «العمل مع دولة الخلافة يحقّق النتائج المضمونة».