IMLebanon

في أوهام ونفاق..

 

تركيبة الأوهام كانت، ولا تزال وستبقى (طويلاً!) جزءاً من الثقافة السياسية في بعض عوالم العرب والمسلمين.. ومن نتاجاتها العامة والمباشرة والأكيدة هي مقاربة الواقع والوقائع بما “يضمن البقاء” خارج الزمن والحداثة الراهنين! وهذا في زبدته وصفوته يعني أن الديكتاتوريات والشموليات إندحرت أو تكاد في معظم الدول لكنها بقيت في نواحينا ومراعينا من إيران إلى سوريا، ومن اليمن إلى غيره من الدول المبتلية بمدونة أوهام وطموحات دولة “الولي الفقيه”!

 

.. حتى الدولة الستالينية الأخيرة على وجه الأرض، التي هي كوريا الشمالية بدأت تعطي إشارات إلى تفلّت يواكب الزمن وشروطه وآلياته! ومثلها، أو قبلها كوبا دولة الوهم الماركسي الطافح، ذهبت وتذهب باتجاه محو آثار ونتاجات ثورة الكومندانتي كاسترو! وتدبّ خطاها على طريق آخر غير الذي اعتمدته على مدى سبعة عقود كاملة! ولا خفّة في الافتراض، ان الانعطافة الأخيرة “تنتظر” لحاق راؤول بأخيه فيديل طالما أن السيرة الناهضة لتغيير الأمم لم تجد سوى “التوريث الثوري” ضمانة وحيدة للديمومة والبقاء! فيما كان الظنّ السعيد والحالم والواهم، يتبختر بلغو ممجوج حول سرديات “الحزب” و”الطبقة”.. و”الشعوب السعيدة” دفعة واحدة!

 

بين مثالي كوريا شرقاً وكوبا غرباً ترتع منطقة الوسط العربي والإسلامي في غربة الوهم وتحتوي في غربتها نظماً وكيانات ديناصورية آتية في ثقافتها وممارساتها وطقوسها من عصور بائدة لكنها ترطن بآليات حداثية.. وتجد مَدَداً ودعماً من المقلب الآخر! وعلى أرفع مستوياته السياسية و”الثقافية”! بما يثبّت القاعدة ولا ينسفها! وهذه تقول إن الديكتاتوريات التي حطّمت دولها وشعوبها وأبقت الحال العام خارج العصر والزمان، تبقى متلائمة مع الطبائع الأولى! و”أفضل” من بدائلها!

 

أليست القولة الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترامب المتأسية على أحوال العراق وليبيا.. بعد القذافي وصدام حسين، وسوريا “لو غاب” الأسد الابن، إلاّ تعبيراً فظّاً عن تواطؤ شامل فحواه عدم المسّ بمدوّنة الأوهام المفضية إلى كل هذا الخراب والعدم!

 

يلتقي ترامب مع فلاديمير بوتين في هذه السيرة! برغم أن هذا التلاقي يكاد أن يكون موضعياً وحصرياً بالعرب والمسلمين! وبرغم أن الثقافة السياسية الضحلة للأول تنطلق من جذور مختلفة ومناقضة بالتمام لتلك التي يعتنقها القيصر الناهض في موسكو! وبرغم أن الحقيقة التامّة تقول إن المراحل الانتقالية أينما كانت، تتميّز بالفوضى والفلتان حُكماً لكنها لا تعني “خطأ” السعي إلى الحرية والتمدّن وغلبة القانون ودولة القانون! ولا التمرّد على أنظمة العدم والاستبداد! ولا التطلع إلى الحداثة السياسية والدستورية التي نمت غداة انهيار المعسكر الاشتراكي وشكّلت البديل الحتمي منه ومن خياراته وأيديولوجيته وأوهامه العُظمى!

 

وذروة النفاق والتواطؤ في منطوق بعض الديموقراطيات الغربية تكمن في الحقيقة القائلة بأن التسليم ببقاء الأسد الابن مثلاً (ولو مؤقتاً!) ثم تكرار التأسّي على ضياع نظامَي القذافي وصدام، ثم التراخي في الحكم على الجماعة الحوثية في اليمن.. ثم الاستمرار في “النقاش الداخلي” من قِبَل الأوروبيين مع إدارة ترامب في شأن إيران.. ذلك كله وغيره يتزامن ويترافق مع استهداف منهجي للمسار الذي أطلقه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لإعادة تشكيل الوعي (إذا صحّ التعبير) ونقل المملكة من حال إلى حال أكثر إنفتاحاً وتعايشاً مع الزمن ومتطلباته وشروطه، وأكثر التزاماً بقِيَم الاعتدال والرحابة وقبول الآخر! وأكثر إقبالاً على تدعيم دولة القانون! وأكثر تمسّكاً بسياسة الاعتدال والانفتاح والسلام والبناء والعمران والثقافة والفنون والآداب والإبداع! وأكثر تفهّماً للنص الديني في صفوته وأساساته الحاضّة على الخير والعيش والفضائل الكريمة وليس العكس!

 

ذروة النفاق، أن يتم التطاول على الأمير محمد بن سلمان صاحب أهم تجربة ناهضة واعدة في معظم المنطقة العربية والإسلامية، من زاوية حادث فردي عَرَضي مؤسف ومؤلم، فيما يجري التنظير لتبرير النكوص عن وضع حدّ لواحد من أعتى أنظمة القتل والعنف والإرهاب والاستبداد وامتهان كرامة البشر وارتكاب الجرائم ضدّ الإنسانية في سوريا! بل والذهاب إلى البلف والتزوير وتحوير الحقائق في الخلاصات القائلة بأن أوضاع العراق وليبيا “كانت أفضل” أيام القذافي وصدام! من دون “الانتباه” إلى أن كل ما يجري راهناً هو النتاج الطبيعي لعقود من القتل والهتك والاستبداد والصلف ومنع السياسة والثقافة وسوية العيش والحرية!

 

ليس غريباً بعد قليل من الآن، أن تصل الاستطرادات عند الصفوة السياسية و”الثقافية” الغربية إلى استنتاج في شأن إيران متناسل من الاستنتاجات العراقية والليبية والسورية! بحيث يصير بقاء نظام “الولي الفقيه” حاجة ضرورية كي لا تفلت إيران، أو كي لا تنتبه نخبتها أكثر فأكثر إلى حتمية الخروج من فخ مدونة الأوهام الواقعة فيه منذ أربعة عقود!!