IMLebanon

في الاستثمار الخاسر..

 

قُتِلَ الزميل جمال خاشقجي مرّة بالجسد والروح لكنّه يُقتل كل يوم وكلّ ساعة بآليات المتاجرة بدمائه في سوق سياسية واقتصادية ومالية لا ينقصها شيء سوى الكثير من الأخلاق الحميدة!

 

مفهوم تماماً، (وخصوصاً عندنا في لبنان) أن تثير الجرائم ذات البُعد السياسي الهمّ والغمّ والقلق، وأن تؤطر الرأي العام في سياق الدفاع عن الحقّ التلقائي بالاختلاف و”ممارسة” الرأي واعتناق الحرّية.. ومفهوم أكثر (وتكراراً) أن تزيد مستويات الحساسية المفرطة إزاء الجرائم التي تطال أهل الإعلام! ومفهوم أكثر من هذا وذاك أن تدخل الأجندات الخاصة على القضايا العامة، أي أن يوظِّف المتضرّر من المتهم أي خطأ يرتكبه هذا، في خدمته ولمصلحته. وأن يحاول البناء على ذلك من أجل تحقيق غاياته.. وقد تكون هذه الغايات داخلة في صميم مزدوجة الثواب والعقاب والحق والجور والوصول إلى العدل التام الذي يعني محاسبة الجاني وتحميله وزر عمله.. ثم صدّه بالقانون والآليات الشرعية عن مواصلة نهجه غير السوي.

 

وهذا ما يحصل في لبنان منذ 13 عاماً وأكثر، في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وغيره من الأبرار الأحرار الذين استباح الجلاّدون دماءهم من أجل غايات سياسية كبرى.. بحيث أنّ المطلوب بشدّة وحرارة وإيمان، توظيف كل مُعطى “طبيعي” في سبيل الوصول إلى العدالة. ثمّ في سبيل إفشال الأسباب (السياسية) الدافعة لتلك الجرائم وخصوصاً إذا كانت هذه من مستوى منع سقوط لبنان في قبضة المحور الإيراني – الأسدي لإبقائه ساحة مفتوحة ومفلوحة ومشلّعة، لغايات أكبر منه ومن أهله وعلى حسابه وحساب أهله!

 

لكن ليس هذا هو المقياس المتّبع راهناً في قضية الزميل الراحل خاشقجي.. ومن الصعب (والمستحيل!) “إتهّام” المصرّين على مواصلة الاستثمار والمتاجرة بدمائه، بأي قدسيّة تحرّكهم على وقع الضمير! أو الحرص على العدالة المنزّهة والتلقائية. أو حتى “الثأر” لمقتله انطلاقاً من خاصيّة كونه إعلاميا أولاً! أو مظلوماً ثانياً، وارتكازاً من قِبلهم على مدوّنة الاحترام الجليل لحقوق الإنسان وحرّية الإعلام مبدئياً!

 

ما يفعله هؤلاء، قد يكون طبيعياً في عوالم السياسة والمواجهات والمصالح وتصفية الحسابات لكن ذلك كلّه لا يعطيهم أي ريادة أخلاقية. ولا يمنحهم أي تمايز فوقي بل تدلّ الشراسة المتّبعة من قِبلهم في انتهاز اللحظة واستغلالها إلى آخر ذرّة ممكنة فيها، على مثالب كثيرة آتية من جذر النفاق وليس من سواه! وتصبّ في جملتها وصفوتها ومصلها في خانة القول المأثور: “كلام حق يُراد به باطل”!

 

.. وطبيعي وبديهي أن تتناحر الدول وتتصارع، وأمر مألوف أن تُستخدم “الأسلحة” والوسائل المناسبة لكل مقام في ذلك وتبعاً لفحوى القضية الخلافية المطروحة، لكن ما ليس طبيعياً ولا عادياً هو الإصرار على مواصلة استخدام سلاح يكاد أن ينفجر في أيدي حامليه! ومواصلة الاستثمار في دماء الزميل خاشقجي بطريقة سافرة حتى بعد أن تبيّن أو يكاد، أن ذلك الاستثمار لم يؤتِ مردوده المأمول! ولم يوصل إلى الهدف المنشود! وصارت أضراره أكثر بكثير من فوائده! بل إن الموجة انقلبت في واقع الحال على أصحابها! وعادت “البوصلة” إلى البدايات.. إلى ما قبل الجريمة في اسطنبول، حيث فقدان الصدقية، وحيث السلوكيات الملتوية والخطيرة على المستوى الإعلامي وغير الإعلامي التي اعتمدت من أجل سياسات غير منطقية ومضادّة لأي حسٍّ سليم!