IMLebanon

الإستقلال = رجال + قرارات

في الثاني والعشرين من تشرين الثاني 1943، قبل ثلاثة وسبعين عاماً، أُعلن إستقلال لبنان، بعد ثلاث وعشرين سنة على إعلان لبنان الكبير الذي استعيدت إليه المناطق المعروفة بـ«الأقضية الأربعة» التي كانت سلخت عنه بعد سقوط الإمارة وتقسيم الجبل اللبناني الى قائمقاميتين: القائمقامية المارونية والقائمقامية الدرزية، وذلك في أواسط القرن التاسع عشر.

ولقد كان الإستقلال نعمة على الوطن الصغير، وكذلك كان نقمة جلبت له المشاكل التي إنتهت بسلسلة حروب لما يزل يعاني من تداعياتها الرهيبة.

كان الإستقلال نعمة لأنه حرر الإرادة الوطنية من ربقة الأجنبي. ولأنه أعطى الوطن الصغير كيانية معنوية تتجاوز الرقعة الجغرافية، من ذلك إسهامه في تأسيس منظمة الأمم المتحدة وفي وضع شرعة حقوق الإنسان (نصوص المرحوم الدكتور شارل مالك)، وفي تأسيس جامعة الدول العربية والإسهام في وضع الأنظمة التي ترسم معالم عملها. لأنه سبق بلداناً عظيمة الرقعة وعدد السكان  في التحرر من الأجنبي… وليست مصادفة أن ينال لبنان استقلاله قبل الهند ومعظم دول الشرق الأقصى، وقبل ثلثي مجموعة الدول التي تتشكل منها، حالياً، الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ومن نعم الإستقلال الإزدهار المالي الكبير الذي حول الوطن الصغير، معدوم الموارد الطبيعية، الى أهم حال ازدهار في الشرق الأوسط وقد استمرت الى أواسط ثمانينات القرن الماضي، برغم الحروب والمشاكل والإشكالات.

ومن تلك النعم أيضاً النظام الديموقراطي البرلماني الذي تميز به لبنان منذ ما قبل الإستقلال، والذي عجزت الحروب عن إسقاطه.

ولعل أهم نعمة هي تلك التي جعلت سبع عشرة طائفة تتآلف في وطن صغير وتشعر كل منها أنها في وطنها… وهو ما يتفرد به لبنان إزاء العالم قاطبة.

ولقد كان لبنان منتجع العرب، ومستشفاهم، ومدرستهم، وجامعتهم، ومكتبتهم وكتابهم، وصحيفتهم، وفندقهم ومصرفهم، ووجههم المشرق في المحافل الدولية بفضل الإستثمار في الإنسان اللبناني المطبوع على الإنفتاح وعلى التحصيل العلمي وعلى الإكتناز الثقافي إلخ…

ولا شك في أن هذه التجربة أثارت حفيظة وحسد أقربين وأبعدين، وأثارت خصوصاً إسرائيل العنصرية التي وجدت في لبنان نقيضاً لها كونه العيش المشترك، ومنافساً لها، وكونه – يومذاك – سوقاً مالية ومصرفية متقدمة، وخصوصاً كونه بلداً ديموقراطياً وسط »دول« ذات أنظمة أحادية وتوتاليتارية وإلخ… فكانت الخضات الكبيرة التي أسهم في تأجيج أوارها وجود نصف مليون من الاخوة الفلسطينيين الذين احتضنهم الوطن الصغير في أدق ظروف مأساتهم… وما ترتب على ذلك من نتائج نكتفي باعتراف سائر القيادات الفلسطينية (وإن متأخرة) بهولها ثم بندمهم عن تلك الفعلات، عندما أساءوا وجهة البندقية.

واليوم،  وتحت وقع الضغوط الهائلة (إقتصادياً وسياسياً وأمنياً بالتحديد)  الناجمة عن النزوح السوري الضاغط بقوة على مفاصل الوضع اللبناني قاطبة، وقبل أن تكلم الجراح وتبرأ النفوس من آثار الحروب المدمرة، التي عرف كيف إبتدأت ولم يُعرف كيف تنتهي، الضاربة من حولنا نرانا نردّد ما قلناه ذات مرة: ان لا قيمة للأوطان إن لم تصهرها التطورات في بوتقة المحن والتجارب، فالإستقلال ليس هدية تعطى أو منحة تُقَدَّمُ على طبق من فضة، ولا حتى من خشب، إنما هو فعل نضال يومي.

والإستقلال محصلة طبيعية للقاء اللحظة التاريخية بين الرجال والقرار.

فالرجال وحدهم لا يصنعون إستقلالاً من دون قرارات تاريخية مصيرية.

والقرارات لا تأتي من فراغ فلا بدّ من رجال يتخذونها.

ولبنان، كم يحتاج، اليوم، الى المزيد من القرارت التاريخية الوطنية الجامعة، لا الفئوية المفرّقة، على غرار القرار التاريخي بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ليستعيد هذا الوطن دوراً وحضوراً افتقدناهما من عقود، ولرفعه من حضيض هذه الحقبة الطويلة السوداء وسنواتها العجاف.