IMLebanon

إيران مصغرة في أكثر من مكان

 

بين عصا العقوبات التي ترفعها الولايات المتحدة في وجه إيران وجزرة دعوتها للجلوس إلى طاولة المفاوضات من جديد، وعلى الرغم من التوتر المتصاعد والمواجهات بين الطرفين سياسياً وحتى ميدانياً، ينتظر المراقبون متى ستقرر إيران التفاوض وليس إذا كانت ستقرر ذلك استناداً إلى مؤشرات عدة تدل أن هذا هو الخيار الوحيد أمامها. ومع ذلك، لا نستطيع التغاضي عن إمكانية انزلاق الطرفين إلى نزاع عسكري غير مقصود.

مفاوضات أم حرب، أو لا مفاوضات ولا حرب؟ التكهنات كثيرة، ويبقى التفكير في مآلات هذه الاحتمالات لجهة خروجها بالتسوية التي تنتظرها الولايات المتحدة، خصوصاً في ملف توقف النظام الإيراني عن دعم الإرهاب وتغيير ممارساته في المنطقة فيما باتت تُعرف بسياسة تفجير الشرعية في أكثر من دولة عبر إيصال إلى البرلمانات أحزاباً مدججة بالسلاح.

إن التبصر في هذه المسألة يتطلب النظر إلى المشهد الأوسع إقليمياً ودولياً ومحاولة معرفة ملامحه وإذا ما كانت تميل الدفة باتجاه حصول التسوية المنشودة أو عدم حصولها.

على الصعيد الإقليمي، يبرز مشهد دول عدة تحتضن «إيران مصغرة»، إذ نجحت طهران في استنساخ نظامها فيها وباتت مؤسسات الدولة تتعايش مع تنظيمات محلية خارجة عن الدولة تفوقها قوة، وتمكن معظمها من اكتساب شرعية عبر صندوق الانتخابات وأصبح لاعباً رئيساً في رسم السياسات الداخلية والخارجية للبلاد. الأمثلة الأبرز لهذه التنظيمات هي «حزب الله» اللبناني و«الحشد الشعبي» في العراق و«الجهاد الإسلامي» في غزة، تليها ميليشيات الحوثي في اليمن و«حزب الله السوري» وتنظيمات أخرى كثيرة. لن ندخل في نقاش حول خطر هذه التنظيمات على النسيج الاجتماعي أو كيانية الدول وسيادتها، إنما نشير إليها للدلالة على أن إيران باتت مزروعة في المنطقة عبر شبكة من التنظيمات المحلية تأتمر بأوامرها. كل هذا في ظل انهيار النظام الإقليمي التقليدي في المنطقة وعدم بلورة نظام إقليمي جديد يلعب دور الضابط فيها حتى باتت دولها مبعثرة الصفوف، حليفة ومتنافسة في وقت واحد، ولم يعد من جامع يشد أواصرها غير احتواء إيران.

على الصعيد الدولي، المشكلة الأبرز هي فقدان الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة مصداقيتها، والأدلة على ذلك كثيرة. في سوريا، بدأ الأمر مع إدارة أوباما حين تراجع عن تهديداته لنظام الأسد بضربات موجعة إذا ما انتهك «الخط الأحمر» واستخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه. واستتبع ذلك انسحاب شبه كامل من الأزمة السورية، ما فتح الباب أمام التمدد الإيراني والنفوذ الروسي. إن السكوت الأميركي والأوروبي حتى الدولي عن التصعيد العسكري الروسي اليوم في إدلب لإسقاطها بالتقسيط كما جرى في حلب، والاتهامات الجديدة باستعمال السلاح الكيماوي، دليل آخر على فقدان القوى الغربية مصداقيتها.

في لبنان، تُرك «حزب الله» على غاربه لعقود وعقود حتى أصبح دولة ضمن دولة. وبعد اندلاع ثورة الأرز وتحرر البلاد من وصاية سوريا مع خروج جيشها، فشلت الولايات المتحدة في تأمين ما يلزم من دعم لهذه القوة التغييرية الديمقراطية، فسقطت أمام «حزب الله» وسقط معها لبنان في قبضته من جديد.

في العراق، قدمت أخطاء واشنطن المتتالية بلاد الرافدين إلى إيران على طبق من ذهب، وسمحت للأخطبوط الإيراني بالإمساك بالمفاصل السياسية والأمنية في بغداد.

في اليمن، وعلى الرغم من الحرب التي يخوضها التحالف العربي بدعم من التحالف الدولي ضد ميليشيات الحوثي، لا تزال هذه الأخيرة تشكل تهديداً كبيراً لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، لا سيما مع امتلاكها ترسانة عسكرية كبيرة زُودت مؤخراً بصواريخ باليستية، وباتت كـ«حزب الله» طرفاً في المعادلة الإقليمية يتم التفاوض معه كأي قوة شرعية وحتى تتغاضى عنه الأمم المتحدة.

على المقلب الفلسطيني، وعلى الرغم من أن غزة تحت حكم حركة «حماس»، فإنه بإمكان «الجهاد الإسلامي» في أي وقت أن يجرها إلى حيث لا تريد، دفاعاً عن المصالح الإيرانية.

أما تركيا، فقد وقّعت على صفقة صواريخ «إس 400» مع روسيا على الرغم من كل التحذيرات الأميركية، آخرها ما تحدثت عنه وسائل الإعلام عن إمهال واشنطن أنقرة أسبوعين للتراجع عن هذه الصفقة. وبالنظر إلى تاريخ أميركا مع التحذيرات «والخطوط الحمر»، نرجح أن شيئاً لن يحصل.

بعيداً عن المنطقة وفي حديقة الولايات المتحدة الخلفية، فنزويلا، هددت أميركا بالتدخل عسكرياً دعماً لخوان غوايدو ضد نيكولاس مادورو. دخل هذا التهديد غياهب النسيان ليقتصر الرد الأميركي على فرض عقوبات مالية، فيما مادورو لا يزال في السلطة، ما دفع غوايدو إلى خيار المفاوضات، في خطوة تهدد بفقدان المعارضة زخمها وحتى انقسامها. من جهة أخرى لم تسفر المفاوضات مع كوريا الشمالية عن أي تقدم ملموس بشأن نزع السلاح النووي ودخلت في مأزق يبدو أنه غير قابل للحل. أما العلاقات التجارية مع الصين، فلا تزال هي الأخرى موضوع أخذ ورد ولم يتم التوصل إلى الاتفاق التجاري الموعود مع جينبينغ.

بالنسبة إلى روسيا، وعلى الرغم من عودتها إلى الساحة الدولية كلاعب مهم، لا بد من الإشارة إلى نقطة غاية في الأهمية: لا يمكن لأي دولة أن تدخل مصافّ الدول الكبرى باقتصاد ضعيف، وهذا الأمر ينطبق عليها. روسيا هي نمر، إنما نمر من ورق، يضاف إلى ذلك صعوبة أن تلعب دوراً في ظل غياب رؤية استراتيجية شاملة. فموسكو تريد أن تكون على صداقة مع إسرائيل وإيران والسعودية وتركيا وقطر في آن، وهذا التنافر في الموقف يؤشر إلى غياب المصداقية.

بين إيران المصغرة المزروعة في أكثر من مكان في المنطقة وفقدان الدول الكبرى مصداقيتها وفعاليتها وسط كثرة الكلام وانعدام التنفيذ، وفي ظل فقدان النظامين الإقليمي والدولي لضابط يتمتع برؤية شاملة ويعمل على حل الأسباب لا مواجهة النتائج، من الصعوبة بمكان تصور أن تفضي أي مفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران إلى التسوية المستدامة المرجوة. فكما فشلت واشنطن مع كوريا الشمالية في نهج فرض الالتزام بالمطالب أولاً لرفع العقوبات ثانياً، قد تفشل مع إيران، لا سيما أنه في الحالة الإيرانية، التقيد بهذه المطالب يعني أن تطلق طهران النار على رأسها. وحتى الحرب غير المرجحة أساساً ستفشل إلا إذا كان هدفها اقتلاع النظام الإيراني وكانت محصنة بدعم دولي وهذا قد يكون متعذراً، وستواصل إيران خوض حروبها خارج حدودها عبر أذرعتها الأخطبوطية المنتشرة في المنطقة.

في ظل هذه المشهدية، يؤمَّل أن تنجح القمتان الطارئتان، العربية والخليجية، التي دعت إليهما السعودية في بلورة موقف عربي واضح موحد لمواجهة التهديدات، يستند إلى قراءة واقعية جديدة للمشهد الأوسع ويقارب أسباب المشكلات، لا نتائجها، بعيداً عن أي رهانات على الخارج، علّه يجد السبل لوقف تصعيد قد يعرّض المنطقة في لحظة للمزيد من الكوارث.