تُقبل إيران على مفاوضاتها النووية بثقة، لكن بواقعية.
الواقعية كون المرحلة هي الأصعب عليها، حسب الايرانيين انفسهم، مع ان الموضوع يمكن ان يتخذ نقاشا كون مرحلة الحرب مع العراق التي خاضتها طهران مرغمة وشابها تهديد للنظام الذي تغلب على نزاع اهلي دقيق، قد تكون هي الأصعب.
اليوم تعرض المشروع الايراني لضربة كبيرة، بدءا من امنه القومي خارج الأسوار، وهو الدرع الواقي للداخل.
النقاشات العميقة في الاوساط التي حصلت مع الحرب الكبرى على لبنان وبعدها ولا تزال مستمرة، تشي بوضوح الى حدة تلك الضربة على الايرانيين الذين يقاربون بانتقاد ما حصل في سبيل مخرجات لمسار اكثر مواءمة للواقع.
الانتقاد هو لطريقة ادارة وتعاطي ايران مع الحرب برمتها، ويطال طبعا “حزب الله”، درة التاج لـ”جبهة المقاومة” (كما يسمي الايرانيون المحور)، في الشكل الذي دخل فيه الحرب واسبابه، من دون نكران ان ثمة انتقادات ايضا، لكن ضمن دائرة ضيقة، للحزب تتناول سبب عدم دخوله بقوة اكبر في الحرب، لربما كانت النتائج مختلفة.
واذا كان الانتقاد سهلا بعد الحرب وما تمخضت عنه، فإن الجديد ان ثمة صدى لرأي كبير بأن الدخول كان خطأ.
شنت حركة “حماس” “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الاول 2023. تلا ذاك التاريخ لقاء ايراني اميركي كان محددا، حصل في 9 اكتوبر. ما يدل على ان الايرانيين لم يستشاروا بالعملية، لكنهم دعموها ووافقوا “حزب الله”، خاصة امينه العام الاسبق السيد حسن نصر الله، على “جبهة الإسناد” التي يتردد ان نصر الله أبلغ مسوؤلا كبيرا في “حماس” في الثامن من ذلك الشهر ان الحزب قرر الانخراط بها.
جاءت النتائج كما نعرفها جميعا، والاهم كان سقوط النظام في سوريا، وكانت مفاعيله تتخطى ضرب الحزب وما تعرضت له ولا تزال “حماس” وما تعرضت له طهران..
طبعا المحور لم يهزم، بداية من “حماس” التي قالت اسرائيل قبل عام انها انتهت والامر سيان على “حزب الله” الذي قالت إنه فقد 80 في المئة من قدرته.. فالبيئات المؤيدة موجودة ومستمرة على دعمها، لكن الحرب نفسها كانت وبالا على لبنان وفلسطين، إلا ان الاحتلال ايضا ليس في افضل حال مهما قال رئيس حكومته، بنيامين نتنياهو، غير ذلك.
اليوم تبدو ايران امام مفترق طرق، هي لن تتخلى عن “حزب الله”، لكنها ستقارب القضية برمتها من زاوية مختلفة، جوهرها حفظ نظامها وحمايته، اي تمرير المرحلة واعتماد تقية تقيها شر الضرب، وربما يكون هذا لصالحها ولصالح المنطقة.
فمع التنازل نوويا في الجانب العسكري، ستتنفس طهران الصعداء ومع إلزام الحلفاء في المنطقة، الاذرع كما يسميهم الاميركيون، على التراجع الى داخل الاوطان والتموضوع خارج الحروب، سيكون في امكان ايران الانفتاح على باقي اركان المنطقة والشروع في تسوية تاريخية لصالح استقرار بات الشرق الاوسط في أمس الحاجة له.
ويريد الايرانيون اعادة فتح الخطوط حتى مع اعداء اليوم مثل النظام الجديد في دمشق، وثمة دور تركي هام هنا سيكون هاما جدا ايضا لحفظ الامداد لـ”حزب الله” برضى دولي.
الموضوع السوري يحتل حيزا هاما في الاستراتيجية الايرانية لدورها الإقليمي ولأهمية تموضعها. لكن لدى ايران خطوطها الحمراء وتتحين موقف دمشق من المحور وخاصة “حزب الله” والعراق، وتليين موقفها العدائي من طهران، الذي لا تغيير جوهريا فيه حتى الآن. وانطلاقا من تأكيد ايران لوحدة سوريا، فإنها تبغي الانتقال من حالة العداء نحو حالة اللا حرب واللا سلم ثم الانفتاح لصالح منطق الدولة والمصلحة الاستراتيجية لكلا الطرفين.
تمضي ايران بهذا الانفتاح الحذر في سبيل انقاذ اقتصادها الذي تضرر من سياسة الضغوط القصوى التي عاد إليها الرئيس الاميركي، دونالد ترامب، بعد فترة تنفست الصعداء فيها في ظل الرئيس الاميركي السابق، جو بايدن، وان كان الاخير لم يعد للاتفاق النووي الذي وقعته طهران مع الرئيس الاسبق، باراك أوباما، العام 2015، وانسحب منه ترامب العام 2018.
إذاً إنها مرحلة شراء للوقت حفظا للمحور مع انتهاء المفهوم السابق لـ”وحدة الساحات”، لكن ايضا اختبارا لما هو مختلف قد يفيد طهران سلما خارج سباق التسلح النووي وتغيير العقيدة النووية الذي هدد الايرانيون به والذي يكلفهم مادياً كثيراً.
طبعا في الاستراتيجية الايرانية نحن لا نتحدث عن اسرائيل التي تريد افشال كل ما يحاك ضمن الأروقة المغلقة، لكن نتنياهو اللاهث لتوجيه ضربة لإيران، والمستمر بتغيير الوقائع قدر الامكان في سوريا ولبنان وطبعا في فلسطين، سيكون اعجز عن تنفيذ سياساته وسط رفض اميركي للحروب، حتى الساعة.
لكن كل تلك المتغيرات اذا ما حدثت قد تفتح الباب امام غض طرف ايراني عن تعزيز ترامب لمخطط “إتفاقيات إبراهيم”، مع علم الايرانيين الكامن بصعوبة ذلك وارتياحهم له، كون من المعقد جدا على العرب المضي بعملية السلام من دون حل جديّ للفلسطينيين على اساس حل الدولتين، ما ليس نتنياهو ومن معه في وارده اطلاقاً.