IMLebanon

الملف النووي الإيراني بين آلية «كبح الزناد» وحافة الانفجار

 

يعود الملف النووي الإيراني إلى صدارة الاهتمام الدولي مع اقتراب نهاية المهلة التي منحتها الترويكا الأوروبية (فرنسا، بريطانيا، وألمانيا) لإيران حتى 31 آب/أغسطس الجاري. وتدور الأنظار حول احتمال تفعيل آلية «سناب باك» أو ما يُعرف بآلية «كبح الزناد»، بما يترتب عليها من إعادة فرض العقوبات الأممية المجمّدة منذ توقيع الاتفاق النووي عام 2015. في ظل هذا المشهد، يتقاطع البُعدان السياسي والأمني في معادلة معقّدة تجعل من الأسابيع المقبلة محطة مفصلية في تحديد مستقبل البرنامج النووي الإيراني واستقرار المنطقة بأسرها.

ينبع القلق الدولي من تقارير أفادت بأن إيران تملك نحو 400 كلغ من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وهي نسبة تقترب من مستوى 90% المطلوب لتصنيع السلاح النووي. ووفق ما نشرته «فاينانشال تايمز»، فإن هذا المخزون جزء من كمية إجمالية تفوق 8400 كلغ، أغلبها من اليورانيوم عالي التخصيب. ويعني ذلك أن طهران باتت قادرة، من الناحية التقنية، على إنتاج عدة قنابل نووية في فترة زمنية قصيرة إذا ما قررت ذلك سياسياً، حتى لو استغرق تحويل هذه المواد إلى سلاح فعلي عدة أشهر.

 

ورغم إعلان واشنطن أن الضربات الأميركية والإسرائيلية أعادت البرنامج النووي الإيراني سنوات إلى الوراء، فإن الشكوك ما زالت قائمة بشأن استمرار قدرة طهران على استكمال دورة إنتاج السلاح النووي، خصوصاً في منشآت محصّنة شبيهة بفوردو وأصفهان ونطنز. وهو ما يجعل من مصير هذا المخزون عالي التخصيب نقطة الارتكاز في التوترات الراهنة.

إنّ الترويكا الأوروبية، باعتبارها أطرافاً موقّعة على الاتفاق النووي (5+1)، تسعى إلى استثمار ما تبقّى من صلاحياتها قبل انتهاء مفاعيل الاتفاق في تشرين الأول/أكتوبر المقبل. فهي تمتلك، بموجب قرار مجلس الأمن 2231، صلاحية إعادة فرض العقوبات الأممية على إيران في حال الإخلال بالالتزامات. وقد تركت أوروبا لطهران «باب نجاة» ضيقاً عبر اقتراح تمديد مشروط حتى منتصف تشرين الأول، شريطة السماح للمفتشين الدوليين بالعودة إلى العمل الميداني، والكشف عن مصير مخزون الـ400 كلغ من اليورانيوم المخصب، والانخراط في مفاوضات مع الولايات المتحدة.

 

لكن الواقع أن المسار الدبلوماسي تعرّض لانتكاسة واضحة بعد اندلاع «حرب الـ12 يوماً» بين إسرائيل وإيران، وما تخاللها من ضربات متبادلة استهدفت مواقع نووية وقواعد أميركية. ورغم استئناف الاجتماعات بين طهران والترويكا الأوروبية في جنيف، فإن المواقف لا تزال متباعدة: فإيران تطالب بضمانات أمنية، وتعويضات مالية، واعتراف بحقها في التخصيب في بلدها، فيما يرفض الأوروبيون تقديم أي تنازلات جوهرية.

لذلك، فإن السيناريوهات المحتملة بعد 31 آب/أغسطس هي التالية:

1. تفعيل آلية «سناب باك»:

إذا قررت الترويكا نقل الملف إلى مجلس الأمن، فإن ست مجموعات من العقوبات الأممية ستُعاد تلقائياً، لتجد إيران نفسها في عزلة دولية خانقة. ومن المرجح أن ترد طهران بتسريع خطواتها النووية لاستخدامها كورقة ضغط، ما يزيد احتمالات المواجهة العسكرية المباشرة، سواء مع إسرائيل أو الولايات المتحدة.

2. تسوية مشروطة وتمديد المهلة:

قد ينجح الوسطاء الدوليون في التوصل إلى اتفاق جزئي يمدد المهلة حتى تشرين الأول، مقابل التزامات تقنية محدودة من إيران. هذا السيناريو يمنح الأطراف فرصة لتبريد الأجواء، لكنه يبقى هشاً، إذ يمكن أن ينهار عند أي تصعيد عسكري أو خلاف حول آليات التفتيش.

3. التصعيد العسكري المباشر:

في حال فشل كل المساعي الدبلوماسية واعتبار أن إيران باتت على عتبة إنتاج السلاح النووي، قد تلجأ إسرائيل إلى ضربات استباقية، أو تنخرط واشنطن في عملية عسكرية أوسع تستهدف البنية النووية الإيرانية. هذا السيناريو، رغم كلفته الباهظة، يبقى وارداً، وقد يؤدي إلى مواجهة إقليمية شاملة تهدد أمن المنطقة، إضافة إلى تعطيل إمدادات الطاقة العالمية.

وعليه، فإن الموعد المحدد في 31 آب/أغسطس يتجاوز كونه محطة إجرائية في نزاع تقني حول تخصيب اليورانيوم، ليشكّل مفترق طرق بين مسارين متناقضين: إما استعادة الدبلوماسية لزمام المبادرة وإعادة تثبيت قواعد نظام منع الانتشار النووي، أو الانزلاق إلى سباق نووي مفتوح يهدد الاستقرار الدولي برمته. خصوصاً بعدما أثبت التاريخ بما جرى في هيروشيما وناغازاكي عام 1945 أن السلاح النووي ليس مجرد أداة ردع، بل تهديد وجودي للبشرية جمعاء. فما خلّفته القنبلتان من دمار شامل وضحايا بمئات الآلاف، وآثار ممتدة على أجيال لاحقة، يشكّل تذكيراً دائماً بخطورة هذا السلاح. لا سيما مع التطور التكنولوجي الهائل، حيث باتت الأسلحة النووية الحالية أشدّ فتكاً بعشرات المرات، بحيث إن استخدامها المحدود قد يؤدي إلى «خريف نووي» يهدّد الحياة على كوكب الأرض. ومن هنا، تبرز أهمية معاهدة حظر الانتشار النووي بوصفها الإطار الدولي الأبرز للحد من هذا الخطر، وضمان إخضاع البرامج النووية للتفتيش والرقابة الصارمة. غير أن هذه المعاهدة، على أهميتها، تبقى قاصرة ما لم تُطبَّق بعدالة ودون استثناءات. فاستمرار غضّ الطرف عن الترسانة النووية الإسرائيلية، ورفض تل أبيب الخضوع لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يقوّض مصداقية النظام الدولي ويغذّي سباق التسلح في الشرق الأوسط. وإذا كان الهدف هو بناء نظام عالمي أكثر أمناً، فإن الطريق يبدأ بفرض احترام المعاهدة على جميع الدول بلا استثناء، وإلّا فإن إزدواجية المعايير ستبقى البوابة الأخطر نحو انفلات نووي لا يهدد الأمن الإقليمي فحسب، بل مصير الإنسانية برمّتها.

وفي الختام، يبقى السؤال الجوهري: هل ستتمكن القوى الكبرى من فرض مقاربة عادلة لا تقوم على إزدواجية المعايير، بحيث تخضع جميع دول المنطقة – بما فيها إسرائيل – للرقابة الدولية، أم أن النظام العالمي سيظل مرتهناً لمعادلات القوة، ما يفتح الباب أمام انفجار استراتيجي في أخطر مناطق العالم وأهمّها؟