تُعدّ المفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل، بوساطة أميركية، محطة أساسية في محاولة تثبيت الاستقرار على الحدود الجنوبية اللبنانية، التي لا تزال مسرحاً للتوترات والاشتباكات المتقطعة. وفي هذا الإطار، قدّم الموفد الأميركي توم باراك ورقة عمل تهدف إلى معالجة النقاط الخلافية العالقة بين الطرفين. غير أنّ الردّ الإسرائيلي على هذه الورقة جاء محمّلاً بشروط تعجيزية، فبدا سلبياً في جوهره. الأمر الذي يطرح تساؤلات عميقة حول دلالات هذا الرد ومعانيه، وإلى أي مدى يمكن أن يفتح آفاقاً للتسوية أو يقود إلى جولات إضافية من التصعيد.
وبحسب المعلومات المتوافرة حتى الآن، تضمّن الرد الإسرائيلي موافقة مبدئية على بعض النقاط، من بينها: وقف تدريجي للغارات والاغتيالات، الانسحاب من بعض النقاط المحتلة، والانتهاء من ملف الأسرى؛ لكن هذه الموافقات سرعان ما جرى تفريغها من مضمونها من خلال ربطها بشروط لا يمكن للبنان أن يقبل بها، أهمها: إقامة المنطقة العازلة الاقتصادية، حيث طالبت إسرائيل بأن يكون الشريط الحدودي من القرى المدمرة غير آهلاً بالسكان، على أن يُحوّل إلى منطقة اقتصادية بحتة، أي مصانع ومنشآت صناعية تابعة للدولة اللبنانية. والهدف المعلن هو خلق «فاصل صناعي» بين القرى اللبنانية المأهولة والحدود، لكن المغزى الحقيقي هو إقامة منطقة عازلة جديدة بغطاء اقتصادي، تعزل الجنوب عن عمقه السكاني.
وقد سبق أن أشارت التحليلات السياسية إلى أن التوغلات الإسرائيلية الأخيرة على الحدود تدخل في إطار فرض أمر واقع يكرّس هذه المنطقة العازلة؛ لكن مصادر سياسية لبنانية نفت أن يكون هناك رد رسمي يتضمن السيطرة على بعض القرى، إلّا أن السلوك الميداني الإسرائيلي يشي بعكس ذلك، فعلى الرغم من مطالبة الموفد الأميركي إسرائيل بالانسحاب من نقاط محددة في الجنوب لتسهيل قرارات الحكومة اللبنانية بحصر السلاح، فإن تل أبيب ربطت هذا الانسحاب بشروط شبه مستحيلة، مما اعتبره البعض إسقاطاً للورقة الأميركية لأنه ينزع سلاح المقاومة بدون تحقيق مكاسب ملموسة على أرض الواقع.
انطلاقاً من هذا الرد، تتوزع التفسيرات إلى احتمالين رئيسيين:
1. المناورة وتقطيع الوقت: ثمة قراءة تعتبر أن إسرائيل تناور بالتنسيق مع واشنطن، وأنها لا ترغب فعلياً في وقف الحرب أو الانسحاب. والهدف من ذلك إما دفع حزب الله إلى تقديم تنازلات جوهرية تصل إلى حد الاستسلام، أو شراء الوقت بانتظار لحظة يكون فيها الجيش الإسرائيلي مستعداً لخوض حرب جديدة واجتياح بري للجنوب، لفرض شروطه وتغيير المعادلات الميدانية. وهذا السيناريو يتقاطع مع ما يسمّيه الأميركيون مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، الذي يضع لبنان في صلب إعادة رسم خرائط النفوذ.
2. رفع سقف المطالب لتحقيق المكاسب القصوى: وهو الاحتمال الأرجح بحسب مصادر دبلوماسية، حيث تعمل إسرائيل على رفع شروطها إلى الحد الأقصى لتضمن الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب في أي تسوية مستقبلية. وبحيث، تتحوّل المفاوضات إلى أداة ضغط، وليست مساراً جدّياً للحل.
في ذات السياق، تشير المعلومات إلى أن الموفد الأميركي توم باراك، ومعه الموفدة السابقة مورغان أورتاغوس، سيحملان خلال زيارتهما الاثنين إلى بيروت «نصف موافقة إسرائيلية» مشروطة بسلسلة من البنود التعجيزية. وهذا يعني أن المفاوضات ستبقى متعثرة، وأن الطريق نحو حل شامل طويل ومعقّد. فمن جهة، لا تبدو إسرائيل مستعدّة لتقديم تنازلات حقيقية، ومن جهة ثانية، لا يمكن للبنان أن يقبل بشروط تمسّ سيادته أو تغيّر ديموغرافية مناطقه الحدودية. وبالتالي، فإن الردّ الإسرائيلي السلبي ترك أثراً واضحاً على الداخل اللبناني، فالحكومة التي تحاول التوفيق بين الضغوط الدولية ومتطلبات الأمن الوطني، باتت تتبنّى خطة عمل تسير «تحت سقف عدم التصادم مع أحد»، وفق ما نقلته مصادر رسمية. وهذه الخطة تتضمن طلباً من قيادة الجيش بتمديد مهلة تطبيق القرار الأممي المتعلق بالجنوب، بحيث يمتلك الجيش وقتاً إضافياً للتنفيذ من دون أن يُحشر ضمن مهلة الأشهر الأربعة المحددة بين سبتمبر وديسمبر المقبلين، ولكن هذا المخرج، في ظل المطالب الواردة في الورقة الأميركية لا يُعرف ما إذا سيكون مقبول دولياً، ولا حتى داخلياً في ظل الشروط التعجيزية الإسرائيلية.
كذلك، فمن الواضح أن الردّ الإسرائيلي ليس مجرد تفصيل في مسار التفاوض، بل هو انعكاس لصراع جيوسياسي أكبر. فالحدود الجنوبية للبنان لم تعد تُقاس فقط بخطوط عسكرية أو قرى محتلة، بل أصبحت جزءاً من معركة النفوذ في المنطقة. فإسرائيل تسعى إلى فرض وقائع ميدانية جديدة، والولايات المتحدة تحاول التوفيق بين الضغط على حزب الله واحتواء أي انفجار واسع. أما لبنان، فيحاول الحفاظ على حدّ أدنى من الاستقرار الداخلي وتفادي الانجرار إلى مواجهة شاملة.
وفي المقابل، لا يمكن تجاهل البُعد الأميركي في هذه العملية التفاوضية، إذ أن واشنطن تبدو وكأنها تستخدم الورقة التفاوضية ليس فقط كوسيط بين لبنان وإسرائيل، بل كأداة ضغط مزدوجة. فمن جهة، تضغط على إسرائيل لإظهار بعض المرونة الشكلية حفاظاً على صورتها كطرف يقبل بالوساطات الدولية. ومن جهة ثانية، تضغط على لبنان عبر طرح مقترحات يصعب القبول بها، بحيث يوضع الطرف اللبناني أمام معادلة حرجة: إما الظهور بمظهر الرافض لأي تسوية، أو الانجرار إلى تنازلات لا تتناسب مع موازين القوى الداخلية ولا مع ثوابته الوطنية. وفي المحصلة، يصبح التفاوض وسيلة أميركية لإدارة الأزمة لا لحلّها، وإبقاء الوضع الحدودي تحت السيطرة من دون السماح ببلوغ تسوية جذرية.
وبالختام، يمكن القول إن الردّ الإسرائيلي على الورقة الأميركية جاء ليؤكد أن الطريق نحو التسوية لا يزال مليئاً بالعقبات. فبين المناورة لتقطيع الوقت ورفع سقف المطالب إلى الحد الأقصى، تُبقي إسرائيل المفاوضات رهينة لشروطها، بينما يبقى لبنان أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما رفض الشروط وبالتالي استمرار التوتر، وإما القبول بها بما يعنيه ذلك من مساس بالسيادة الوطنية. وفي الحالتين، يظل سلاح حزب الله والاحتلال الإسرائيلي للنقاط الخمس الجنوبية ومزارع شبعا مرآة لصراع أوسع يتجاوز الجغرافيا اللبنانية ليشمل موازين القوى الإقليمية والدولية.