IMLebanon

هل ولّى زمن الانتصارات أم.. «والله زمن يا سلاحي»؟

سلالة تتلمذت على «النكبة» في فلسطين، واستكانت في الهزيمة. سلالة نسيت بطولات «السويس» وافتدت «بالنكسة» وعبرت بـ «حرب تشرين» إلى ضفة التوقيع في «كامب ديفيد».

ليس غريباً أمر هؤلاء. تحميهم عقيدة العجز طلباً للسلامة…

سلالة تفضل «داحس» و «الغبراء». حروب الاخوة مجالها الرحب. الاستعانة بالعدو فضيلة سياسية. تمتهن العداء بين الأشقاء. لم تسلم دولة من عدوان عليها أو اعتداء منها. من المغرب الأقصى إلى الخليج العربي. جيوش العرب، كانت ضد العرب. نادراً ما كانت ضد العدو، وإن حصل. فلأيام. كأنها حروب بالأجرة. دول، تستقوي على شعوبها وتسترخي أمام المغتصب.

ليس غريباً أمر هؤلاء. من خناجرهم التي في الظهر، تعرفونهم.

فقليل من الانتصارات يكفي. لقد دفعت الأمة ما فوق طاقتها، من العنف والقتل، ثمناً لانتصارين. دول وأنظمة لا تحتمل حزباً ينتصر مرتين على «إسرائيل». تخشى من شعوبها التي انتسبت إلى المقاومة من بعيد، ورفعت شارات النصر تحية وعلامة، وتطلعت إلى مستقبل يعيد فلسطين إلى نصاب الحرية… حكومات «حكيمة» حسبت الانتصار في لبنان نموذجاً يُحتذى، فقررت أن تشن حرباً على السلاح، سلاح المقاومة.

في العام ألفين، تكلل نضال اللبنانيين بطرد الاحتلال الإسرائيلي، لبنان، مدرسة كان، في تبنّي قضايا الأمة العادلة وقضايا الشعوب المظلومة. مناخ الحرية فيه وضعف السلطة في الأطراف، أتاح لكثير من اللبنانيين أن يناضلوا ضد «إسرائيل»، أحزاباً ومنظمات. احتلال ثلثي لبنان في اجتياح العام 1982 أطلق أفواجاً من المقاتلين، بأسماء حركية قومية ويسارية ودينية. حررت المقاومة الوطنية بيروت والجبل والإقليم وصيدا، ثم تفرّدت المقاومة الإسلامية في متابعة «حرب التحرير» حتى جلاء آخر جندي إسرائيلي، وهروب جيش العملاء.

من بنت جبيل، خرج صوت «السيد» ليعلن الانتصار الأول والحاسم، على عدوّ، كان قد هزم دولاً وجيوشاً، مرة بساعات، ومرة أخرى بأيام، وأخيراً بأسابيع. ولقد أهدى «السيد» الانتصار إلى الشعب اللبناني وإلى الأمة كلها. وكان أن قبل الهدية المؤمنون بالقضية، ورفضها مَن كان يراهن على الهزيمة. هالهم انتصار الضعفاء. إن في الضعف قوة. الإيمان بحبة الخردل ينقل الجبال.

لم يكن غريباً أمر هؤلاء. من ماضيهم تعرفونهم.

بسرعة، تأسست «قرنة» في لبنان لتخوض معركة الانقضاض على السلاح وتبخيس الانتصار. قالت «القرنة»: آن للحزب أن يستقيل ويرتاح. الدولة هي البديل والجيش هو العماد.

قالت القرنة: «لم نعد بحاجة إليكم». ثم ارتفعت معزوفة السيادة. ومضمون القول: بعد تحرر الجنوب من الاحتلال، يلزم تحرير السيادة من حزب المقاومة.

سكوت الأنظمة وقبولها بالتحرير على مضض، لم يمنع أن تصبح المقاومة الجامع المشترك للجماهير العربية من المحيط إلى الخليج. ارتفعت المقاومة إلى مرتبة الرمز الحقيقي والمعتقد السياسي والأمل بفلسطين. باتت صورة «السيد» في الصدور والقلوب، وفي صدور البيوت. سقطت الحدود بين الجماهير والشعوب وبين المقاومة وفلسطين. سمعت أصوات الملايين. خانت الأنظمة وارتعدت عروش. لم تعد المقاومة خطراً على الاحتلال الإسرائيلي، بل باتت تقضّ مضاجع ملوك رؤساء، ورثوا السلطة وطوّبوها إلى الأبد. لا أمر يعلو عند هؤلاء الملوك والرؤساء، على السلطة وضمان استمرارهم فيها. لا تعايش للسلطات المزمنة مع مقاومة عاندت الأزمنة المهزومة وانتصرت على المنتصر في حروبه على جيوش وأنظمة وممالك.

لم يكن غريباً أن توقد نار الفتنة. إشغال العرب بماضيهم وإعادتهم إلى «السقيفة» و «قميص عثمان» و «معركة الجمل» و «موقعة الطف». ارتقت الفتوى مراتب القول، وباتت تفتن انقساماً. كان المطلوب نقل الشعوب العربية، من زمن الانتصارات إلى زمن الانكسارات، من زمن مفتوح على المستقبل، إلى مستقبل مقيد بالماضي المضرج بالفتن. صارت مفردات التشيّع والتسنّن والتكفير رائجة. ظهرت بوادر الانقسام في كل مكان. لكنه ظل مكبوتاً إلى أن كان انتصار تموز على العدوان الإسرائيلي.

لم يكن غريباً أن تطلق السعودية تهمة المغامرة على المقاومة. هي صاحبة نهج في التعامل مع القضايا بسوية التسوية الدنيا. الحرب على المقاومة في تموز، دغدغت أحلام ملوك ورؤساء ومنظّرين. ظنوا أنهم سيفتحون شرقاً أوسط جديداً. شرق مسالم، بلا مقاومة ولا ممانعة. شرق يخضع لما دون خطة السلام التي أقرتها القمة العربية في بيروت. يومها، فاز مشروع السلام الملكي السعودي بإجماع، ولكنه دفن فور ولادته على درج الفندق. يومها، كان «أبو عمار» في المقاطعة، يسهر وينام، والمدفعية الإسرائيلية تظلل غرفة نومه. كان وحيداً. تركوه هناك. منعوا صوته من الحضور… في عدوان تموز، استعيدت العافية السلمية. غوندوليسا رايس، في أحضان رئاسة وزارة لبنان، تخاطب العالم: الشرق الأوسط الجديد على موعد مع ولادته. شرق بسلام الخرفان، وليس بسلام الشجعان. أنّى لهؤلاء الشجاعة، وهم يخافون من شعوبهم ومفكريهم ومواطنيهم، ومن المقاومة ولو كانت بعيدة عن ديارهم؟

لم يكن غريباً أن يكون الردّ الدولي والعربي والمذهبي على شاكلة الفتنة المنتشرة في المنطقة. لقد ورث الخراب الانتصار. ما كان ربيعاً مشروعاً حالماً بالحرية والرغيف والكرامة. حوّلته أنظمة الردة الملكية والمذهبية إلى حروب متصلة، تتغذّى من منسوب مذهبي لا ينضب، توظفه في مشروع سياسي يغيّر وجه الشرق الأوسط حقيقة: الانتهاء من فلسطين وممن يحميها ويقاتل من أجلها ويحفظها قضية غير قابلة للنقصان. لقد اشترك الاستبداد مع الرجعية في نقل الربيع العربي، لكن الرجعية تفردت في قتال المقاومة ومن معها. في تشويه سمعتها وصورتها وحشرها في بيئتها المذهبية.

ها هي الرجعية تدشن الطريق إلى تل أبيب علناً، بعدما سلكتها سراً منذ النكبة.

برغم كل هذه المواقف، لم ينتهِ «زمن الانتصارات». ثمن الانتصارات غالٍ جداً. الإبقاء عليه صيانة للسيادة وقاعدة للتحرير.

إنما، كم بدا سهلاً الانتصار المكلف على العدو، وكم يبدو باهظاً الصمود في وجه العدو الداخلي؟

برغم هذا الليل، يطيب للمؤمنين بالحرية وفلسطين دندنة أغنية بليغة: «والله زمن يا سلاحي/ اشتقتلك في كفاحي».