جدية الدولة وقدرات البلدية على المحك
سلكت الإجراءات الإدارية والقانونية والمالية مسارها الطبيعي باتجاه إعادة فتح أبواب مغارة جعيتا أمام الزوار. وبعد أن وقع رئيس البلدية على إشعار عقد رضائي موقت «لتشغيل وإدارة واستثمار المغارة وملحقاتها» تحت إشراف ورقابة وزارة السياحة، زارتها وزيرة السياحة لورا لحود برفقة فاعليات من الوزارة ومن سياسيي قضاء كسروان ورؤساء بلدياتها. بانتظار أن تتوج الخطوة بالموافقات الرقابية لكل من هيئة الشراء العام، وديوان المحاسبة ومجلس شورى الدولة، حتى تعطي الإشارة بفتح المغارة مجدداً، بدءاً من نهاية شهر حزيران الجاري.
ومن المتوقع أن تكون مغارة جعيتا جاهزة لاستقبال زوارها مع بداية ذروة نشاط موسم الصيف المرتقب في شهر تموز، إذا لم تطرأ تطورات أمنية وإقليمية إضافية. فكيف ستدار المغارة خلال هذه المرحلة؟ وهل تملك البلدية عملياً المؤهلات الفنية والإدارية لحمل هذه المسؤولية؟
عشية التلزيم الذي أعلنت عنه بلدية جعيتا عبر صفحتها، كان بعض السياح العرب لا يزالون يقصدون المغارة ويفاجؤون بإقفالها. إذ تشكل «جعيتا» وجهة أساسية ومتكررة سواء للوافدين العرب أو الأجانب وحتى المغتربين، مما يجعلها وفقاً لأرقام غير رسمية تستقطب سنوياً ما لا يقل عن 250 ألف زائر .
في المقابل طوت مغارة جعيتا صفحة «ماباس»، الشركة المتخصصة بـ «بيع قطع السيارات»، وعقدها الرضائي لإدارة المغارة الذي استمر ثلاثين سنة. فتحررت من قبضة نفوذ أصحابها الذين انتفخت جيوبهم من مقدرات المغارة، مقابل فتات العائدات التي أمّنتها مواردها لخزينة الدولة وبلدية جعيتا.
صارت خارطة الطريق أكثر ثباتاً ووضوحاً إذاً، نحو إرساء معايير عالمية في إدارة المغارة، ووفقاً لشروط التنافس التي سيحددها ملف إعادة تلزيمها مع ملحقاتها، من دون حرمان جعيتا ومنطقتها من عائداتها خلال الفترة الانتقالية الفاصلة بين الإعداد للمزايدة وإرساء عقد التلزيم.
بين الإقفال والتشغيل
إذاً، بين أن تقفل المغارة في الصيف الجاري أو أن تفتح أبوابها بإدارة محلية، وقع الإشعار بالاتفاق الرضائي بين بلدية جعيتا ووزارة السياحة بالاستناد إلى المادة 46 من قانون الشراء العام، وإلى رأي صدر عن هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل في شهر آذار من العام 2025.
وينص هذا الرأي على أن من يلتزم إدارة المرفق بـ «التراضي» لا يحق له إلا أن يكون من أشخاص الحق العام. فحصر الأمر بذلك إما بالبلدية أو الوزارة، أو الاثنين معاً.
وقد اشترط العقد، المحافظة على المرفق كما الأب الصالح. وأهالي جعيتا وفقاً لما قاله ابن البلدة الوزير السابق زياد بارود «هم الأحرص على ذلك». مذكراً كيف قامت البلدية إبان الأحداث اللبنانية بين العامي 1975 و1993 بسد المنافذ إلى المغارة بالباطون المسلح تداركاً لأي إساءة لمعالمها.
فكانت تلك المرحلة أساسية أيضاً في الحفاظ على الطبيعة البيئية للمغارة ومحيطها.
أبدت البلدية استعداداً مشابهاً حالياً أيضاً لتحمل المسؤولية «بشكل استثنائي ومرحلي وظرفي وموقت». وانطلاقاً من هنا حُددت مدة عقدها الرضائي مع وزارة السياحة حتى تاريخ انتهاء إجراءات الشراء العام، وإعادة تلزيم تشغيل المغارة واستثمارها وصيانتها، وإبرام العقد مع شركة جديدة.
التشغيل والمواكبة
وفقاً للعقد الموقع، من المقرّر أن تقتطع بلدية جعيتا، الحصة الأكبر من الإيرادات التي سيحققها المرفق من خلال بيع بطاقات دخول المغارة، على أن تحدد وزارة السياحة سعر هذه البطاقات.
فالمرجو في المرحلة المقبلة، وفقاً لرئيس البلدية وليد بارود توفر الشروط القانونية والمالية الأفضل لمصلحة الخزينة العامة والبلدية في آن معاً. علماً أن بارود أصر على حصة أعلى للبلدية من إيرادات المغارة، وفاوض على رفعها، وفقاً لما يقوله، بعد دراسة للنفقات أشرف عليها شخصياً.
وبموجب هذه الحصة ستكون البلدية مسؤولة عن كافة النفقات التشغيلية، وتلتزم الصيانة الدورية والتطوير وحماية المغارة وملحقاتها، لتحافظ عليها ريثما تسلم إلى وزارة السياحة بنهاية عقدها. وهي بالتالي حصة تغطي فقط التكاليف التشغيلية للمغارة، وبشكل منفصل عن النفقات البلدية الأخرى المرتبطة بتأهيل البنية التحتية المؤدية إلى المغارة.
في المقابل، يبدي الوزير زياد بارود ارتياحاً لكون نادي المغاور، الذي اكتشف المغارة العليا في سنة 1951، سيكون أيضاً شريكاً أساسياً في مرحلة الإدارة الموقتة للمغارة. ويعتبر أن النادي، الذي لا يتوخى في أهدافه الربح المادي، مؤهل للمهمة بما يملكه من خبرة تقنية know how حول الإدارة الفنية والتقنية الفضلى للمغاور. بموازاة تولي البلدية المهمات الإدارية، من ناحية استقبال الزوار، وبيع البطاقات وتشغيل الملحقات.
المغارة ليست استراحة
لا يرى بارود في التأني الحاصل بإعادة تلزيم تشغيل المغارة ضرراً. بل يقول: «نحن نتحدث عن إدارة مغارة وليس استراحة»، وبالتالي يرى أنه في العجلة ربما تكون ندامة، كتلك التي رافقت مرحلة التلزيم السابقة، والتي يشبهها بارود بفضيحة يتجنب الدخول بتفاصيلها، ويتأمل تجنبها من خلال الحرص الذي يبديه أبناء جعيتا، وبلديتها ونادي المغاور على هذا المرفق. علماً أنه وفقاً لما يكشفه رئيس البلدية لـ «نداء الوطن»، سيتم التواصل أيضاً مع الموظفين السابقين في شركة «ماباس» للاستفادة من خبرتهم المكونة في إدارة المغارة.
إلا أن المهم أيضاً في المرحلة الحالية، وفقاً لبارود، هو الدور الذي سيناط بوزارة السياحة، التي وإن لم يكن لديها الكادر البشري الكافي لإدارة المغاور، ولكنها قادرة على تفعيل وظيفتها ودورها الرقابي، لتبقي الأمور تحت إشرافها.
انطلاقاً من هنا يرتقب أن تتكثف اللقاءات في الأيام المقبلة من أجل إرساء أسس التعاون بين كافة الفرقاء المعنيين. ولا يُتوقع في المقابل أن تستغرق دورة الملف على الهيئات الرقابية وقتاً طويلاً، خصوصاً أن المعنيين بهذه الهيئات ولا سيما في الشراء العام ومجلس شورى الدولة كانوا مشاركين أيضاً في مرحلة الإعداد للعقد الرضائي. مثلما تتم المتابعة الحثيثة لإعداد دفتر شروط المزايدة التي ستطلق لاستدراج العروض العالمية في المرحلة المقبلة، بعد الاستعانة بدار الهندسة التي قدمت خبرتها مجاناً أيضاً.
نحو استثمار ذكي
لا شك أن شهرة المغارة العالمية تجعلها قبلة لاستدراج عروض شركات عالمية، وعامل جذب للمستثمر الأجنبي، وخصوصاً متى توفرت الظروف الأمنية التي تؤمن تدفق السياح.
وفقاً لبارود فإن المطلب الأساسي من أي عقد يوقع مع الشركات العالمية، إلى جانب إعادة توزيع الواردات بعدل وتوازن، هو بشكل أساسي توفر الخبرة الفنية والتقنية والإدارية الكافية لدى الملتزم. «فنحن هنا نتحدث عن مغارة عمرها آلاف السنوات، وهناك أصول لإدارتها، وبالتالي الشركة التي ستفوز بالعقد يجب أن تكون متخصصة بإدارة المغاور».
هذا الحرص المشترك بين الوزارة والهيئات الرقابية، يتبدى خصوصاً من خلال انكباب مهندسي دار الهندسة بجهد تطوعي على إعداد الشق الفني لدفتر الشروط، بما يؤمن المحافظة على بنية المغارة من الداخل والخارج، إلى جانب تأمين حسن إدارة التجهيزات من مولدات وتلفريك ومواقف السيارات المشمولة أيضاً من ضمن أي عقد سيوقع لاحقاً.
وبحسب بارود فإن الوزيرة لحود حريصة على أن يؤمن دفتر الشروط أفضل استدراج للعروض العالمية.
بلدية على المحك
الأهم أن مرحلة التلزيم الرضائي لن تكون ذريعة لعدم استكمال تلزيم المغارة بشروط عالمية، والذي يتوقع أن تستكمل إجراءاته في نهاية العام الجاري، وفقاً لبارود. وعليه، يمكن الاستنتاج أنه بين إدارة محلية موقتة وتلزيم مرتقب بمعايير عالمية، ستدخل مغارة جعيتا مرحلة جديدة من تاريخها، تُختبر فيها قدرة البلديات على تفعيل المرافق السياحية الحيوية، لتمتحن معها أيضاً جدّية الدولة في حماية مواردها الطبيعية.
فمغارة جعيتا يجب أن تحمى، ليس كرمز سياحي فقط، بل كمورد بيئي استراتيجي. فهل تنجح البلدية كما وزارة السياحة في أول اختبار استثنائي لهما منذ تسلمهما مهماتهما؟