بلحظة زمنية حرجة، لبنانياً، اطلقت الخزانة الأميركية بقرار، وفقاً لقانون «ماغنتسي» (تيمناً بضابط المخابرات الروسي، الذي اضطهده نظام بوتين)، والمخصص لفرض عقوبات على شخصيات نافذة في دول خارج الولايات المتحدة الأميركية. وقضى القرار بفرض عقوبات على الأصول المالية لرئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، وهو نائب حالي في البرلمان اللبناني ورئيس أكبر كتلة نيابية، بموجب قانون الانتخاب الحالي، الذي نسج على قياس المطالب المسيحية، بانتخاب المسيحيين لنوابهم والمسلمين لنوابهم، والشبيه الى حد كبير «للقانون الأرثوذكسي»، ووزير خارجية سابق، ومتزوج من ابنة مؤسس التيار، رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون، وحليف حزب الله اللبناني، الذي وصفته الولايات المتحدة بالارهاب، ولاحقته بعقوبات، بدأت ولم تنتهِ، من قيادييه، الى رجال اعمال، مقربين منه الى نوابه، وكل من له صلة به، حتى أن وزيرين من تيارين حليفين للحزب هما وزير المال السابق والنائب الحالي عن حركة «أمل» علي حسن خليل، وهو من أقرب المقربين من رئيس المجلس النيابي الحالي، ويوسف فنيانوس، الوزير الذي كان يمثل تيار «المردة» في حكومة الوحدة الوطنية، التي كان يرأسها الرئيس المكلف تأليف «حكومة مهمة» سعد الحريري.
الى هنا، يبدو المشهد هكذا: نظر الى العقوبات على خليل بأنه استهداف مباشر الى رئيسه التنظيمي والنيابي، نبيه بري، وقال الأخير حينها ان الرسالة وصلت.. بمعنى ما، هو استهداف لرأس السلطة التشريعية.. وينظر الآن الى العقوبات على باسيل، في اللحظة الزمنية الراهنة، انه استهداف لميشال عون، وهو في موقعه رئيساً للجمهورية، ومؤسس التيار، الذي يرفع شعارات ضد الفساد، وبدا من سير الوقائع، ان موظفين محسوبين عليه، هم قيد الاعتقال في تهم فساد وسوى ذلك..
بمعنى أبعد، هو استهداف لرئيسين بين ثلاثة (الثالث رئيس الحكومة) الذي يقال ان بعض الوزراء السابقين، المقربين منه وقتذاك (وليس اليوم)، هم على لائحة العقوبات، وفقاً للقانون الذي استهدف باسيل بموجبه..
وبتبسيط اوضح، ان فريق 8 آذار، الذي قبض بعضه على السلطة، ومقدرات البلاد والعباد، وعاثوا فيها فساداً، منذ عقود ثلاثة، والبعض الثاني منذ ما بعد اغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري، هو المستهدف بالعقوبات، إيذاناً بانتهاء حقبة طويلة من عبثه بالسلطة، الى جانب كثر، الامر الذي ادى الى الانهيارات المتتالية في الوضع الداخلي لبنان،انهيار سعر صرف العملة، انهيار استقرار الأسعار، انهيار البنية التجارية، واقفال المحلات التجارية، وانقطاع الادوية، والشوشرة، في عملية التعليم، والفشل في احتواء تداعيات فايروس كورونا، فضلا عن البطالة والعطالة والفقر..
وفقاً للتجربة التاريخية مع العقوبات الأميركية.. التي شكلت بديلاً حذراً لاستخدام القوة المسلحة، والتي اوصى بها الرئيس الأميركي ويلسون، كجزء من استراتيجية عصبة الأمم غداة انهاء الحرب العالمية الاولى.،. باعتباره نظام حصار، ليس من السهل مقاومته. ولم ترق هذه الفكرة لجون فوستر دالاس (الذي شغل منصب وزير خارجية) باعتبارها تستهدف الابرياء ايضاً في الدول التي تتعرض للعقوبات.. فإن آثار العقوبات (Samtions) في العلاقات الدولية، من الناحية السياسية ليس ترويض من يعاقب، واعادته الى جادة الصواب، بل خلاف ذلك تماماً، تعرضه لاحقا للابعاد او الابادة، او اخراجه من المشهد العام او المشهد السياسي (صدام حسين، معمر القذافي، حسني مبارك، البشير رئيس السودان المخلوع الخ…).
وبصرف النظر عن مطابقة او عدم مطابقة انظمة العقوبات الاميركية ضد الدول والافراد، للقانون الدولي، وميثاق الامم المتحدة فإن المصالح والظروف، هي التي تتحكم بمثل هذا النوع من الاجراءات التي غالباً ما تكون قاسية، او حتى ظالمة.. ومن النيات الكامنة وراءهاالإضرار بنفوذ الاشخاص، وترهيب الآخرين من التعامل معهم، سواء كشركات أو أفراد..
وفي حالة لبنان، كان «تراست جمّال بنك» أول ضحايا العقوبات الأميركية على المصارف اللبنانية، والذي مرَّ هكذا بسهولة، إن لم نقل بسلاسة، شجعت الأميركيين وسواهم على التمادي، في فرض هذا النوع من العقوبات.
العقوبات، كجزء من السياسات الخارجية للولايات المتحدة، وهي إمَّا لتركيع الدول، ونقلها من سياسات معنية الى أخرى، أو للضغط من اجل اتخاذ قرارات تدعم الخيارات الأميركية في نهاية المطاف.. (تجربة العقوبات على السودان التي أطاحت بالبشير وانتهت بسلطة بديلة ذهبت فوراً إلى تطبيع العلاقات مع اسرائيل في عهد دونالد ترامب الرئيس الاميركي المنتهية ولايته).
وكما في الحالات التي فرضت فيها عقوبات اميركية ضد كوبا وسوريا وايران والصين، وروسيا الإتحادية، فإن الادارة الأميركية، تستند الى تبريرات ودوافع، تتجاوز الحسابات والمصالح الداخلية للولايات المتحدة، لتطال شؤوناً اقليمية ومحلية محض، فمثلاً قانون العقوبات الأخير على سوريا قبل قانون قيصر، اسند العقوبات الى حجة انتهاكات حقوق الانسان في سوريا واستخدام العنف ضد المتظاهرين، وصولاً الى قانون قيصر، مروراً بقانون محاسبة سوريا واسترداد السيادة اللبنانية.. ويتولى الرؤساء الأميركيون إصدار الأوامر التنفيذية ضد البلدان او الكيانات أو الافراد المستهدفين بالعقوبات..
ولا تحظى العقوبات الأميركية، أياً كانت بأية تغطية في القانون الدولي، أو من قبل الأمم المتحدة، التي تصدر في كل دورة للجمعية العامة التي تعقد في ايلول قراراً من دون الاحالة الى لجنة رئيسية، وأخرى في العام2010، ومما جاء في ديباجة هذا القرار… وإذ يساورها القلق إزاء استمرار دون اعطاء في اصدار وتطبيق قوانين وأنظمة تمس بآثارها التي تتجاوز حدود تلك الدول سيادة دول أخرى والمصالح المشروعة لكيانات أو أشخاص خاضعين لولايتها القضائية وحرية التجارة والملاحة..
وطالب القرار الدولي بالامتناع عن اصدار وتطبيق قوانين وتدابير من هذا النوع، وتحث على إلغائها في أقرب وقت..
وإذا كانت الولايات المتحدة غير عابئة بمشروعية قراراتها، فإن وضعية العقوبات المتمادية على لبنان، من شأنها أن توضح المسار الانحداري للوضع اللبناني، ما لم تبادر القيادات اللبنانية الى اعادة تصويب أدائها، وتمهد لإعادة النظر، ليس بسياساتها وحسب، بل بخروجها القسري او الطوعي من السلطة..
بصرف النظر عن شرعية او لا شرعية عقوبات تسنها دولة ضد افراد في دولة أخرى، ضاربة بعرض الحائط كل مندرجات العدالة الدولية، او القانون الدولي، فإن الحدث المتعلق بباسيل يتجاوز أي اجراء آخر..
وكانت بداياته، الواضحة، عندما استبعد ديفيد شنكر، المكلف من إدارة ترامب بإدارة العلاقة الأميركية مع لبنان، باسيل من زياراته للقيادات اللبنانية، بعدما صرَّح الأخير بأن أزمة الدولار، مرتبطة بالجهة الدولية التي تطبعه، وكان يقصد الولايات المتحدة.
لكن للمسألة، أبعاداً اخرى، تتجاوز هذه النقطة، الى ما هو أبعد، ويتعلق بمستقبل التوازنات اللبنانية، وبمستقبل التمثيل السياسي والحزبي في الوسط المسيحي..
ووسط المخاض، المتعلق بتأليف الحكومة، تربط مصادر لبنانية واسعة الاطلاع، بين رفض باسيل لمرشحين مفترضين (مثل كارول العياط) لوزارة الطاقة او سواها، والاسراع بفرض العقوبات عليه، باعتباره الشخص القوي في ساحة المسيحية، الذي يعرقل تأليف الحكومة، ويتمسك بالأداء الذي قاد البلد الى ما وصل اليه من انهيارات، جعلته قاب قوسين او أدنى على خط الزوال عن الخارطة العالمية، والكلام لوزير الخارجية الفرنسية لودريان.
وصفت العقوبات على باسيل بأنها بمثابة الصاعقة التي ضربت قاعدة الائتلاف الحاكم في لبنان، وكذلك لدى المسيحيين اللبنانيين، الذين تعتبر غالبيتهم اليوم، انهم امتداد للسياسة الأميركية، وان علاقتهم مع فرنسا مجدداً «نوستالجيا» تاريخية ليس إلَّا.
التزم فريق باسيل الهدوء، وهو ينتظر مباشرة ادارة جو بايدن عملها.. ليتحرك على خط، قد يعيد اليه اعتباره الأميركي… وهذا رهان محفوف بالانتظارات العقيمة..