وبعد طول انتظار، صدر قانون استقلاليّة القضاء، هذا القانون الذي طال انتظاره لأعوام وعقود، أبصر النور وأُحيل للنشر أصولًا في الجريدة الرسمية، حتى يُصبح نافذًا ومُلزِمًا.
وأهمّيّة هذا القانون وسندًا لمصادر وزارة العدل، أنّه يُبعِد السُلطة القضائيّة عن السياسة، ويحفظ هيبة القضاء. حيث يُشكَّل مجلس القضاء الأعلى بالانتخاب أو باقتراح من الجسم القضائيّ نفسه. ويُمنع نقل القاضي إلّا بموافقته أو بعد انقضاء خمس سنوات من خدمته أو في حال ارتكابه خطأً جسيمًا.
وهذه الضمانات الثلاث والتي يتضمّنها القانون، كفيلة بأن تؤمّن استقلاليّة للمرفق القضائي، وتُبعده عن أي تدخُّلات سياسية أم زبائنية.
فالضمانة الأولى والمتمثّلة بكون هذا القانون يُبعِد السلطة القضائية عن السياسة، تُشكّل المدماك الأساسيّ لنهضة القضاء واستقلاليّته. وتحفظ هيبة القضاء، وتُحصّن القُضاة في ممارسة أعمالهم. فلا يُعقل أن نتصوّر نهضةً قضائيّة، أم استقلاليّة، بحال بقيت السياسة تؤثّر على السلطة القضائيّة.
والضمانة الثانية والمتمثّلة بتشكيل مجلس القضاء الأعلى، تُشكّل الأرضيّة المُثلى لاستقلاليّة القضاء. وتشكيل هذا المجلس بالانتخاب من القُضاة أنفسهم، أو باقتراح من قِبلهم حصرًا، يمنح الاستقلاليّة لهذه السلطة في اتّخاذ قراراتها.
والضمانة الثالثة والمتمثّلة بمنع نقل أي قاضٍ من موقعه، إلّا بموافقته، أو بعد انقضاء خمس سنوات من خدمته، أو في حال ارتكابه خطأً جسيمًا، تُشكّل أُمّ الضمانات. لأنّ أكثر ما يُقلق أيّ قاضٍ هو نقله تعسُّفًا أم عقابًا على تطبيقه القانون والالتزام بنصوصه. فلا يُعقل أن نُعرّض أيّ قاضٍ لأيّ تدبير عقابي، كونه لم يخضع لإرادة السياسيين أم أصحاب النفوذ. إنّما تحصينه في موقعه، ونزع القلق من نفسه، ومنحه الطمأنينة في عمله والأمان. فنقله إمّا أن يحصل بموافقته، أم بعد انقضاء خمسة أعوام على تعيينه، أم بحال ارتكب خطأً جسيمًا، يُصبح مُبرّرًا ومقبولًا.
فالقانون شكّل قفزة نوعيّة لجهة تحقيق استقلاليّة القضاء، ولا بُدّ بالمناسبة من الإشادة بدور معالي وزير العدل الذي بذل ما بقدرته من جهود للعبور بهذا المشروع إلى برّ الأمان. حيث أثبت جدّيته وجدارته، وحقّق حلمًا لطالما راود أهل القضاء وأبناءه.
كذلك، لا يُمكننا إلّا أن نؤدّي التحيّة إلى رئيس لجنة الإدارة والعدل الأستاذ جورج عدوان، الذي احتضن القانون وكان الشاهد على ولادته.
مع التأكيد، أننا تطرّقنا إلى بعض ميّزات هذا القانون. علمًا، أنّ القانون يتضمّن الكثير منها. مثلًا، انتزع القانون الجديد من السلطة السياسية صلاحية وقف أي قاضٍ عن العمل. وحصر قرار الوقف بالمجلس التأديبي وبمجلس القضاء الأعلى (المادة 101 منه). فيما كان القانون السابق يولي الحق لوزير العدل وقف أيّ قاضٍ عن العمل بناءً لطلب هيئة التفتيش القضائي (المادة 90 منه).
فضلًا عن أنّ المشترع حرّر التشكيلات القضائيّة من أيّ مُصادرة لها، من قبل أيّ وزير معنيّ أو حتى رئيس الدولة. فقضى أنّه وبانقضاء 45 يومًا من إيداعها ديوان وزارة العدل تُصبح نافذة حُكمًا. ما يمنع على أي مرجعية مهما علا شأنها، مصادرة التشكيلات وتعطيل المرفق القضائيّ.
بالخُلاصة، إنّ تسويق مناخ من أنّ القانون الجديد جاء مبتورًا، ولم يُحقّق المُبتغى، هو قَول مردود. لأنّ القانون شكّل قفزة نوعيّة نحو قانون مُستقّل يُحرّر السلطة القضائية من أي قيدٍ أم شرط.
اليوم، وبعد أن صدر القانون، من الثابت أننا لن نستطيع تحقيق العدل حصرًا عبر قانون استقلاليّة القضاء.
إنّما يقتضي أن يتلازم ذلك مع قرار بإنفاذ القرارات القضائيّة دون مواربة أو مداراة. فكما قال “بليز باسكال” (الفيلسوف وعالِم اللاهوت 1623-1662) ” العدالة دون قوّة عاجزة، والقوّة دون عدالة طاغية”.
ما يعني، أنّه يقتضي تحقيق العدالة مع قرار بتنفيذ قراراتها. لا أن نكتفي بعدالة قاصرة عن إنفاذ قراراتها وأحكامها.