في بلدٍ اعتاد تقلّبات العواصف السياسية والأمنية وارتداداتها، تبدو بعض الزعامات وكأنها مرساة توازن في بحرها المضطرب بينما تتصرف أخرى كأنها ريح عاتية تدفع بالسفينة نحو الكارثة. وبين هذا وذاك تحتدم المقارنة داخل الطائفة الدرزية الكريمة بين نموذجين نقيضين الزعيم الوطني وليد جنبلاط الذي اختار درب الحكمة والتبصّر والصاخب وئام وهاب الذي لا يملّ من مغامرات تكاد تفجّر تماسك هذا المكوّن اللبناني الأصيل.
لم يكن وليد جنبلاط مجرد وريث سياسي لوالده الشهيد كمال جنبلاط بل صاغ شخصيته بهدوء المثقف ودهاء رجل الدولة. نشأ في بيت التاريخ وتشرّب من والده دروس الفكر والحرية وتغذّى وجدانه من إرث جده المفكر النهضوي الأمير شكيب أرسلان. هذا التشابك بين القيم الروحية والثقافية والسياسية جعلت من الأستاذ جنبلاط زعيماً من طراز نادر. من يتابع مسيرة جنبلاط يدرك أن مواقفه مهما بدت متناقضة ظاهرياً تنبع من قراءة مركبة للمشهد المحلي والإقليمي وتوازنات القوى ومتغيّرات الديمغرافيا. ولعلّ افتتاح مسجد «شكيب أرسلان» عند مدخل قصر المختارة عام 2016 ليس مجرد حدث بل تعبير رمزي عن اندماج الإسلام المنفتح بالإرث الوطني العابر للطوائف. وقد كان لي شرف الصلاة فيه مستشعراً روحاً تجسّد التعددية الحقيقية والانفتاح المشرقي في لحظة التلاقي بين العقلانية والإيمان.
على الضفة الأخرى يقف وئام وهاب ممثّلاً لنهج مختلف كلياً، فهو زعيم الصدامات والمواجهات الذي يمارس السياسة بوحي اللحظة لا بوعي التاريخ. خطابه حاد وأداؤه استعراضي وتحالفاته موسمية، من تبعيته لنظام الأسد في أوجّ تمدّده الدموي إلى ارتهاناته لمعادلات «حلف الأقليات» مما جعله خصماً حتى داخل بيئته الطائفية إن لم نقل عدواً متربصاً بتاريخها الوطني العريق. ولا ينسى اللبنانيون كيف تحوّل وهاب إلى بوق للتحريض وصل الى حدّ إهانة مفتي جبل لبنان بألفاظ نابية تناقض أبسط آداب الخطاب السياسي والقيم التوحيدية التي ترفع راية الكرامة وضبط النفس والاحترام المتبادل.
يوم السابع من أيار 2008 دخلت الذاكرة الدرزية مرحلة حرجة، يومها انزلق الشباب إلى مواجهة دامية مع إخوتهم في الطائفة وآثر الزعيم طلال أرسلان التراجع درءاً للدم الدرزي، وحده وهاب أصرّ على المضي قدماً في جنون استباحة هذا الدم مما تسبب بسقوط ضحايا من خيرة شباب الطائفة. إلّا أن جنبلاط كعادته اختار الحكمة لا العصبيّة فطلب خلاف المزاج الجماهيري «العضّ على الجرح» وإعادة ضبط البوصلة نحو الحد الأدنى من التماسك الداخلي.
مواقف وئام وهاب لم تعد مجرد تفلّتات لغوية، فالرجل بعد كشف تورّطه في شبكات «تبييض» أموال تجارة كابتغون النظام البائد استعان بخطاباته الطائفية للتهرّب من مواجهة جرائمه، وفي تصعيد هو الأخطر تجاوز به ما قام به أنطوان لحد من تهجير مسيحيي شرق صيدا وإقليم الخروب لتستعملهم إسرائيل «أكياس الرمل» حماية حدودها، يقامر وهاب بمشروع أكثر خطورة كونه متعلق بمصير أهل السويداء الأبيّة بعنوان يُسقط فيه المكوّنات الوطنية من حساب الكرامة والحقوق ويختزلها بأدوات وظيفية في مشروع فتنة إسرائيل الكبرى التي شرحها جنبلاط أخيراً. وعليه لم يعد خطر وهاب على الدروز فحسب بل على فكرة لبنان نفسه وعلى التجربة المشتركة في العيش وعلى الدور الوطني المتميّز للطائفة الدرزية التي وضعها كمال جنبلاط وشكيب أرسلان في قلب المشروع الوطني والعربي.
أثبتت تجربة ناغورني كاراباخ أن أي تغييرا ديمغرافيا يستند إلى قوة مادية مآله السقوط ولو بعد حين. النظام الجديد في سوريا بالكاد يتلمّس طريقه بعد عقود من التشويه الأسدي البنيوي من تعليم مدمّر، تفكك أسري، أجيال نشأت في الخيم الحرمان والخوف والبرد بعيداً عن مدرسة التوجيه الفكري والقيمي، مؤسسات أمنيّة وعسكريّة ناشئة… وهذا الواقع يتطلب تجاوز خطأ إعادة إنتاج تجربة المحاصصة اللبنانية وميليشياتها التي كسرت مبدأ «هيبة حصريّة احتكار الدولة العادلة للسلاح» لتتقاسم السلطة وتتحوّل الى قوى أمر واقع تغرق الدولة في الفوضى والفساد.
نعم هناك ملاحظات كثيرة على الأستاذ جنبلاط من مشاركته في «الاتفاق الثلاثي» إبّان الحرب وكونه شريكاً في منظومة الحكم بعد الطائف أعترف هو نفسه بها، ولكن لا يمكن إنكار دوره في إنقاذ الطائفة الدرزية من خيارات عبثية وجودية. ويكفي أنه بعد اغتيال والده تمكّن من محاصرة أمثال وهاب من توظيف الجريمة سياسياً وابعادها عن المجرم الحقيقي أي نظام الأسد من الذين نفذوا مجازر ضد مسيحيي الشوف في محاولة خبيثة لاغتيال مبدأ كمال جنبلاط بعد تصفيته جسدياً.
لبنان يمرّ بمخاض عسير، المنطقة تتغيّر، الأنظمة القديمة تتهاوى وكيانات جديدة تولد بثقل التاريخ وجراحه. والطوائف اللبنانية سنّة، شيعة، موارنة، دروز وأرثودكس وغيرهم أمام لحظة مصيرية تستوجب الالتفاف حول عقل جماعي يتجاوز الغرائز الفرديّة، وعليهم وعلى رأسهم السُنَّة أن يستلهموا من فكر الإمام الأوزاعي الذي أرسى قبل أكثر من 13 قرناً أسّس لمنهج الانفتاح والعدل والتضامن الوطني وحماية المظلوم مع ردع الظالم والوقوف في وجه عناوين الثأر والعصبيّة والوصاية لبناء منهج فكري لقيادة كل المكوّنات.
لبنان الجديد لا يُبنى بردّات الفعل ولا بالعصبيات بل بالشراكة الحقيقيّة… وسوريا المقبلة لا يجب أن تعيد ارتكاب أخطاء سلطة لبنان وتسمح بتقاسم الميليشيات للدولة والنفوذ وتتحوّل الى سلطة أمر واقع تدمير الدولة ومقوماتها.
نحن أمام لحظة وطنية تفرض علينا مراجعة الخطابات ونبذ المتاجرين بدماء الطوائف وإيقاف الأصوات التي تتغذّى من الجهل والانقسام، فنصرة الأخ الضعيف تكون بالوقوف إلى جانبه أما نصرة الأخ الظالم فتكون بردعه عن ظلمه، ليبقَ لبنان دولة مدنية ترعى مواطنيها لا رهينة مشاريع أمراء حرب متجددة فالوطن لا يُبنى بالصوت العالي والغرائز بل بالعقل الرصين والحكمة المتوارثة والكتاب والمأسسة والرؤية الجامعة العابرة للطوائف والمناطق.