IMLebanon

جاستا والموقف المفهوم اللامفهوم

هل كان موقف الكونغرس الأميركي من قانون جاستا مفاجئاً؟ هل كان السعوديون أصدقاء بالفعل للأميركيين إلى الدرجة التي جعلتهم يُصدمون من وضع هذا القانون موضع التنفيذ؟ هل علاقة السلطات التنفيذية في البلدين على ما يرام؟ هل الأجهزة التشريعية في البلدين على وفاق؟ هل الشعبان، الأميركي والسعودي، يتنفسان الرؤية نفسها، ويتبنيان أطروحة أممية واحدة.

شاهدت قبل أسابيع، فيلم توم هانكس الجديد «عرض للملك»، الذي يحكي قصة تاجر أميركي يسافر إلى السعودية مضطراً، بسبب الأزمة الاقتصادية، ليعرض مشروعاً تقنياً على السعوديين. كان توم هانكس مؤدباً طوال دقائق الفيلم، لكن المخرج لم يكن كذلك، فقد أظهر السعوديين على أنهم مجموعات من العصور الوسطى تتنعم بما يقدمه العالم من اختراعات بسبب ثرواتهم الفاحشة. الأعمال الصغيرة في بلدهم يقوم بها الآسيويون، والأعمال الكبيرة يتصدى لها الأوروبيون، والسعوديون من بينهم إما غارقون في ملذاتهم وإما وسطاء لا يلتزمون بوعودهم! وكي تبلغ الدراما ذروتها بأبسط الحلول، وفق المؤلف والمخرج بين رأس توم هانكس ورأس طبيبته السعودية، في إشارة واضحة إلى أن المرأة التي يسلب السعوديون حقوقها ويعتبرونها ناقصة الأهلية هي الأحق والأجدر بصحبة الأميركي المتحضر والمتمدن! يقول المخرج، على وقع حركات وسكنات بطله هانكس: المرأة السعودية المستعبدة هي في الحقيقة أفضل بكثير من مستعبديها ومانعي الحرية والهواء عنها!

هذا الفيلم ليس استثناء في السينما الأميركية، لكنه الأخير. عقود طويلة والسعودي أو الخليجي إما شرير وإما جاهل في الأفلام الأميركية. عجينة بعيدة من الحلم الأميركي، لكنها ليست مجهولة. خلطة لا علاقة لها بالمدنية، لكنها في قلب العالم تمشي في كل المناسبات على سجادته الحمراء! هانكس وصنّاع الأفلام وعرابو هوليوود بعوالمها المختلفة هم القسم من الشعب الأميركي الذي يعرف شيئاً عنا! أما القسم الآخر والأكبر الذين لا يعرفوننا، فنحن بالنسبة إليهم لسنا إلا «أناساً يعيشون خارج أميركا». هكذا بكل بساطة!

السعوديون في الجانب الآخر ينقسمون في علاقتهم بأميركا ثلاثة أقسام: قسم يعتبرها رأس الكفر الأكبر، وقسم يؤمن بأنها خلف كل المؤامرات في المنطقة، وقسم مفتون بأسلوب الحياة الأميركية الذي يتميز بأمرين: الحرية المضبوطة بقانون مرن، والبساطة البعيدة من تعقيدات الحياة في أوروبا. ثلاثة أقسام سعودية ليس من بينها قسم يعرّف الأميركيين بوصفهم «أناساً يعيشون خارج السعودية»!

طيّب… الشعبان ليسا صديقين، كما خبرنا. هما أقرب إلى التنافر سلوكياً وحضارياً، ولا تواصل بينهما، فماذا عن ممثليهما في البلدين؟ ماذا عن الكونغرس ومجلس الشورى؟

الشورى مجلس استشاري وليس نيابياً تمثيلياً، وبالتالي فهو أول ما سيخرج من الحسبة، فسواء اتخذ موقفاً سلبياً أم إيجابياً من أميركا، فنحن في النهاية نتحدث عن رأي ١٥٠ رجلاً وامرأة فقط، وليس الرأي العام للشعب السعودي. أما الكونغرس فهو يمثل الناس بالفعل في أميركا، وعلى رغم أن الأعضاء في غرفتيه يتعاملون دائماً مع القضايا الشرق أوسطية من منطلقات سياسية لا شعبية، فإنهم اختاروا في قانون «جاستا» أن يذهبوا في الطريق الشعبي، مبتعدين من التنسيق مع السلطة التنفيذية.

طيّب… الأجهزة التشريعية (تجاوزاً) في البلدين ليست على خط صداقة واحد. فماذا عن السلطات التنفيذية؟ ماذا عن حكومتي البلدين؟

كل بلد متوسط التأثير في العالم، قوي في إقليمه مثل السعودية، يحتاج إلى قوة عظمى تحمي توجهاته السياسية وتصطف إلى جانب مبادراته في المنطقة، وتقف ضد مناورات خصومه السياسية. وكل قوة عظمى، مثل أميركا، تحتاج إلى بلد متوسط التأثير قوي في إقليمه كي يلعب دور الموازن في السياسات الدولية ويساهم في حماية مصالحها.

البلدان اشتغلا على هذه المعادلة عقوداً طويلة، ولم يفكرا في أن يقرّبا القواعد الشعبية من بعضها. في الحقيقة، لم تكن هناك حاجة أصلاً إلى فعل ذلك، لأسباب عدة ليس هذا مجال الحديث عنها.

الشعبان مختلفان، وممثلا الشعبين (تجاوزاً) مختلفان، والسلطتان التنفيذيتان في البلدين متفقتان. هكذا كانت تجري الأمور إلى فترة قريبة. ثم حصل الانقلاب! بدأت العلاقة بين السلطتين التنفيذيتين في البلدين تتأزم شيئاً فشيئاً. موقف السعودية من الربيع العربي لا ينسجم مع موقف أميركا. وما تفعله أميركا في سورية لا تقرّه السعودية. وعمليات السعودية في اليمن غير مرضي عنها في الجانب الأميركي. والبلدان يقفان على طرفي نقيض في علاقتهما بإيران، أما في العراق فمواقف البلدين تتخذ مسارين متضادين تقريباً.

ساءت علاقة الحكومتين، فدفعتها القاعدتان الشعبيتان اللتان لم تلتقيا أصلاً إلى الحضيض! ما الذي يتبقى إذاً سوى جاستا؟ ماذا نتوقع غير جاستا؟!

أعود إلى سؤال المقالة في أولها: هل كان موقف الكونغرس من قانون جاستا مفاجئاً للسعوديين؟ وأجيب: نعم، يا للغرابة! صُدموا من أن كل الوقائع على الأرض تقول إن السعودية وأميركا خصمان لدودان!

جاء جاستا… وسيذهب مثلما جاء، لكن لعله فرصة ذهبية لمراجعة العلاقات بين البلدين، التي لم تكن وثيقة أبداً إلا على لسان مسؤولي البلدين!