IMLebanon

الكماليون والإسلاميون ضد إردوغان

 

منذ كمال أتاتورك، مؤسس جمهورية تركيا الحديثة، لم يفعل أحد بهذا البلد ما فعله رجب طيب إردوغان. وبصرف النظر عن التقييم الإيجابي أو السلبي لحكمه، قاد الرجل انقلاباً نقل تركيا من حال إلى حال. من علمانية مفرطة في موقفها المتشدد ضد المظاهر الدينية، إلى ما أطلق عليه إردوغان «إسلاماً سياسياً» منفتحاً على جيرانه العرب، من دون أن يكون معادياً للغرب. رافق ذلك حلم جامح في إحياء الأصول العثمانية للجمهورية، رغم ما يخلّفه هذا الحلم من حساسيات داخل تركيا ومع جيرانها العرب. ومع أنه كان يفترض أن تكون علاقات تركيا مع الجوار خاضعة لشعار «صفر مشكلات» الذي أطلقه رئيس الحكومة ووزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو، غير أن إفراط إردوغان في الثقة بالنفس وفي فن مراكمة الخصوم، والتدخل في شؤون الآخرين، كل ذلك جعل تزايد المشكلات عنواناً وحيداً للسياسة التركية في المنطقة.

لم تقتصر مراكمة الخصوم على الخارج. داخل تركيا أيضاً كسب إردوغان أعداء كثيرين بسبب نهجه الاستعلائي في التعاطي مع الآخرين، سواء كانوا حلفاء لحزبه أو خصوماً. ولم يقتصر ذلك على السياسيين. تكفي قراءة ما يكتبه أورهان باموك، ابن إسطنبول البار، أو متابعة تصريحات الكاتبة أليف شفق ليستشف المرء حجم المخاوف التي تقلق الطبقة المثقفة التركية من عودة إردوغان على رأس نظام رئاسي مطلق الصلاحيات بعد الاستفتاء الأخير على الدستور، الذي أراده الرئيس التركي مدخلاً إلى تعزيز نفوذه، وزيادة قدرته على فرض الكلمة الأخيرة في كل نواحي الحياة التركية. شفق تقول إن إردوغان الذي جاء إلى السلطة عن طريق الانتخابات دمر الديمقراطية بإضعاف حكم القانون وإنهاء الفصل بين السلطات والقضاء على حرية الإعلام. أما باموك فيعبر عن قلقه بالقول: أنا خائف على تركيا لأني أعرف أن إردوغان يريد أن يحكم وحيداً مهما كلف الأمر ولا يريد أن يشاركه أحد السلطة.

بعد غد الأحد موعد لاختبار ثقة الأتراك برئيسهم. والأكيد أن إردوغان لم يكن يتوقع أن يكون هذا الاختبار صعباً كما تظهر استطلاعات الرأي. فالرجل الذي حكم تركيا لعقد ونصف عقد من الزمن، أولاً كرئيس للحكومة مطلق الصلاحيات في ظل شريكه وغريمه عبد الله غل، ثم كرئيس كامل الصلاحيات، و«سلطان» بلا منازع، كان يتوقع من دون شك «وفاء» أكثر من هذا من قبل شعبه. لهذا يشعر إردوغان بوطأة العملية الديمقراطية التي تدفع مرشحين آخرين في وجهه إلى حلبة المنافسة. ولعله يتساءل في قرارة نفسه: من أين جاء هؤلاء؟ وبأي حق يترشحون ضدي؟ أنا الذي أعدت أمجاد تركيا إلى سابق عهدها العثماني، وشيّدت الجسور ورفعت البنايات الشاهقة، وأطلقت الصوت في كل أزمة من أزمات المنطقة؟

إنها نشوة القيادة التي تعمى عن رؤية الواقع. انفصل إردوغان عن حقيقة ما يجري حوله. ولهذا يواجه معركة صعبة لم يكن يتوقعها عندما قرر إجراء الانتخابات المبكرة قبل سنة ونصف من موعدها الطبيعي، لعله يحصد ثمار المعركة التي خاضها ضد «الانقلابيين»، والتي انتهت بتطهير ما يزيد على 150 ألفاً من وظائفهم، واعتقالات واسعة في صفوف الصحافيين والمحامين والقضاة وكبار موظفي الدولة، فضلاً عن إبعاد كل من يشتبه بهم في الجيش وسائر أجهزة الأمن، بحيث صار الولاء الشخصي لإردوغان هو المعيار الوحيد للاحتفاظ بالوظيفة العامة في تركيا.

أمام وضع كهذا لم يعد غريباً أن تلتف معظم التيارات السياسية في وجه الرئيس التركي، متجاهلة كل خلافاتها الآيديولوجية والسياسية. حزب «الشعب»، الأتاتوركي المنشأ والولاء، وحزب «السعادة» وريث الزعيم الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان، وأحد الأحزاب الصغيرة المنشقة عن حزب الحركة القومية، الشوفيني التوجه والأفكار، فضلاً عن «حزب الشعوب الديمقراطي» الذي يقيم زعيمه صلاح الدين دميرطاش في السجن. كل هؤلاء ائتلفوا ليشكلوا جبهة موحدة ضد إردوغان. وعلى رغم تعدد مرشحيهم، الذين بلغ عددهم خمسة، فإن الأبرز بينهم هو محرم إينجه، مرشح حزب «الشعب الجمهوري»، الذي يتوقع أن ينافس إردوغان على الرئاسة في الدورة الثانية بعد أسبوعين، إذا عجز الرئيس التركي (كما هو منتظر) عن الحصول على 51 في المائة في الدورة الأولى بعد غد.

إينجه أصبح يشكل علامة فارقة في السياسة التركية، تتميز بالواقعية، بالمقارنة مع النهج العلماني المتشدد الذي سلكه هذا الحزب منذ تأسيسه على يد كمال أتاتورك في العشرينات من القرن الماضي. كما أنه متصالح مع المشاعر الدينية التي تعتنقها الأكثرية الساحقة من الشعب التركي، وخطابه بالتالي ليس خطاباً منفراً أسوة بأسلافه من سياسيي حزب «الشعب». لذلك لا يستطيع إردوغان أن يستغل ضعف الولاء الديني عند إينجه الذي يضع على حسابه على موقع «تويتر» صورة أمه وأخته ترتديان الحجاب، كما تفعل زوجة إردوغان. كذلك يعلن هذا المرشح «الأتاتوركي»: لا يحق لإردوغان وجماعته أن يعلمونا مبادئ الدين الإسلامي. فنحن مسلمون أيضاً مثلهم تماماً.

مرشح يقلق إردوغان فعلاً، حتى أنه صار يطلق على خصمه صفة «المسكين»، ليرد إينجه مفاخراً ومستغلاً الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها تركيا: نعم أنا مرشح المساكين.

غير أن المفارقة الأغرب في هذه الانتخابات تتمثل بوقوف مرشح حزب «السعادة» تمال كرم الله أوغلو ضد إردوغان، الذي يفترض أن يكون الوريث الشرعي للقاعدة الإسلامية التي تركها نجم الدين أربكان، الذي كان يوصف ذات يوم بـ«الأب الروحي» لإردوغان. كرم الله أوغلو الذي أكمل دراسته في إحدى جامعات مدينة مانشستر البريطانية يتحدث عن نظام شبيه بالنظام البريطاني، تتعايش فيه الدولة والمؤسسة الدينية جنباً إلى جنب، وتقوم السياسة الخارجية على قاعدة الحوار مع علاقات أوثق مع الدول العربية والإسلامية، والتخلي عن طلب عضوية الاتحاد الأوروبي، مقابل تعزيز دور تركيا داخل الحلف الأطلسي ومع الولايات المتحدة.

إذا كان من دلالة لخوض مرشح إسلامي المعركة ضد إردوغان فإنها تشير إلى مدى تغير الولاءات في تركيا، وإلى حالة الانفصال القائمة بين الرئيس التركي وقسم لا بأس به من مناصريه السابقين. ومن يعرف تاريخ الصراعات السياسية في تركيا يدرك معنى أن ينتهي إردوغان في موقع المنافسة في الوقت ذاته مع مرشح من حزب أتاتورك وآخر من حزب أربكان، لا يستبعد أن يتحالفا معاً في الدورة الثانية بهدف إلحاق الهزيمة به، مثلما هما متحالفان فعلاً في معركة الانتخابات النيابية التي تجري بعد غد أيضاً والتي يتوقع أن يخسر فيها حزب «العدالة والتنمية» الأكثرية التي يتمتع بها حالياً في مجلس النواب.

أمر كهذا كان من المستحيلات قبل عشر سنوات. إنه «تحالف الأضداد» الذي يهدد اليوم «عرش» إردوغان.