IMLebanon

«البيارتة» في «زمن الغبن»: «زعامات» ما بعد الحريري

 

 

لم يعش «البيارتة» يوماً على «أحادية سنيّة». وهذا ما يحصل اليوم، في ظل تنامي الجمعيات والشخصيات التي تحاول أن «تقش» الأرض بالسياسة والمال، في غياب الزعيم الأقوى

 

شاء القدر دائماً أن يخسر «البيارتة» زعماءهم باكراً. ما كادوا يعلّقون صور الرئيس جمال عبد الناصر حتى مشوا في جنازة رمزيّة له جابت الأحياء الضيّقة لمدينتهم. وساروا خلف نعش الرئيس رفيق الحريري بمجرد أن رفعوا صوره في منازلهم. قبل ذلك، مُنوا بهزيمة خروج منظمة التحرير الفلسطينيّة وخسارة «ظهر» استندوا إليه دوماً: ياسر عرفات، مع إبعاد قسري لـ«القبضاي» إبراهيم قليلات.

 

صحيح أن «عزوتهم» بقيت في بيوتات سياسية وشخصيات كسليم الحص وتقي الدين الصلح وصائب سلام… إلا أنّها لم تكن كافية لملء خوائهم السياسي والعاطفي، إذ وحدها العصبيّة البيروتيّة ما جمعتهم بهم.

 

أهل بيروت ليسوا من «المستضعفين الجُدد»، يقول سياسي من أبناء العاصمة. إذ إنّ «اختلال التوازن السنّي ليس طارئاً علينا. لطالما شعر البيارنة بالغُبن» الذي «ساهم الوجود السوري في تعميقه». فلا أهل العاصمة عرفوا صياغة تفاهم مع المسؤولين السوريين، ولا هؤلاء الأخيرون تعلّموا قواعد التّعامل معهم. هكذا بقيت العلاقة ملتبسة رغم الجهود التي بذلها كثر من العقلاء من الطرفين.

يعرف «البيارتة» أن الـ«علّة» تكمن في أنّهم عاطفيون. كل الموجات السياسيّة التي لحقوا بها كانت موجاتٍ شعبيّة أخذتهم إليها العاطفة أكثر من العقل، فتأثر مزاجهم تارةً بالمدّ المصري وطوراً بالجزر الفلسطيني، إلى أن حطّت الحرب أوزارها فكانت للمملكة العربيّة السعوديّة حصة الأسد في ميولهم السياسيّة. لم «يتعلّم» أهل بيروت كيف ينضوون في أحزابٍ عقائديّة ذات هيكليّة مؤسساتيّة، فكانوا دائماً أقليّة في الأحزاب الأيديولوجيّة، وفضّلوا الأهواء على الانتماء. وهذا ما فهمه رفيق الحريري جيّداً. أنشأ تيّار المستقبل من دون أن «يتعب» عليه أو يفعّل هيكليّته. غلّب الحريري ما يُريده أهل العاصمة منه: كاريزما قويّة لشخصيّة ذات ثراء فاحش وغطاء عربي «على مد العين والنظر». كان يكفيه أن يحمل لقب «اللي عمّر بيروت» حتّى يتحوّل إلى زعيمٍ لعاصمة لا تتقبّل «الغرباء». ابن صيدا صار بيروتياً أصيلاً، ليس على الأوراق فحسب. أدرك الرجل المحنّك أن البيارتة يُفضّلون التعاطي مع «أبناء جلدتهم» فجمع حوله رموزاً بيروتية: أبو طارق العرب كان «لولباً» في شوارع بيروت يُتابع «الصغيرة والكبيرة» ولا يترك شاردة. طلال ناصر «بيّ الفقير» يُلاحق الطلبات ويعتب في حال عدم تلبيتها. سليم دياب يُنهك من الملفات الواردة إلى مكتب الخدمات الاجتماعيّة، ومعه بشير عيتاني: «كراتين الإعاشة»، والأقساط المدرسيّة والمساعدات الماليّة. وفي كل مرة كانت فيها أسهم الحريري تتراجع، كان الرّجل يعرف الدهاليز التي تعيد المياه إلى مجاريها… ولو بالاستعطاف. هذا ما حصل عام 2000، عندما «تأهّبت» بيروت دفاعاً عن الرجل الذي تُكال لرجاله اتهامات على خلفية «تنكة الزيت».

 

كان ناخبو «أبو بهاء» معروفين: أولئك الذين يسيرون خلفه باعتباره رمزاً يُعيد السنّة إلى الخريطة ويحملهم إلى القمة، ومنتفعون، وقسم من رجال المال والأعمال وميسوري الحال الذين يُشكّلون نحو 35% من أهالي بيروت. هؤلاء لم يكونوا يوماً قريبين من دوائر القرار وظلّوا بعيدين عن الأضواء، لكنّهم كانوا دوماً إلى جانب الحريري في الاستحقاقات. عقليّة رجل الأعمال تجمعهم والثقة بـ«الزعيم القوي» تسيطر على قراراتهم.

 

الحريري الابن: «down» سريع

بعد اغتيال الحريري الأب، أتى الحريري الابن. الشاب «الفريش» عوّض «البيارتة» عن الشعور بالمظلومية. تربّع في قلوبهم باعتباره «ابن الرئيس الشهيد»، إلا أنّه لم يمتلك أدوات «اللعبة البيروتيّة» يوماً. سليم دياب خرج من عباءة الحريري ليتسلّم صالح فروخ مكتب الخدمات، بعدما قضى «أبو طارق» إلى جانب الرئيس الشهيد، حل مكانه عبد العرب الذي «توكّل» متابعة الشؤون الأمنيّة، وتولّى أحمد ونادر الحريري بعض الأمور السياسيّة والتنظيميّة. كلّهم لعبوا على «أرض بيروت» بغطاء من دار الفتوى، ولكن من دون أن يتمكّنوا من نسج علاقة عميقة بين الرئيس والقاعدة. ولولا عاطفة أبناء العاصمة لكان الحريري خرج خالي الوفاض باكراً. تصدّعت العلاقة مع ضعف الحريري وتراجعه عن «المكتسبات السنيّة» ومساومته على التعيينات، قبل أن تعصف الأزمة الماليّة التي ألمّت بتيار المستقبل بما تبقّى من «فئة المستفيدين». وجاءت «الضربة الكبرى» عندما أخذ الحريري تسوية انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة بصدره وألحقها بموافقته على قانونٍ انتخابي أطاح الكثير من المقاعد الحريريّة. خسر الحريري المنتفعين وكذلك الطامحين إلى أن تضع الطائفة يدها على مواقع السلطة والقوة. لم يخفِ بعض هؤلاء «غصّتهم» مما تشهده الأزقّة الشيعيّة في العاصمة من فائض قوة، فاختاروا الانضمام إلى «سرايا المقاومة».

 

السعودية تضرب في العمق

لم يكن ينقص «البيارتة» إلا الخلاف الذي وقع بين الحريري والسعودية. هم الذين اعتادوا التعامل مع الحريري السعودي كوجهين لعملة واحدة، بات لزاماً عليهم اختيار أحدهما. ضاع أهل العاصمة بين مزاجهم العربيّ وعاطفتهم تجاه «ابن الشهيد»، ليصبح طبيعياً أن تُمزّق صورة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان في حيٍّ بيروتيّ وتُرفع له صورة في زقاق آخر. الارتباك نفسه عبّرت عنه نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة. صحيح أن الصناديق في العاصمة (وبقية مناطق السنّة) لم تفرز قيادة سنية تحلّ محل الحريري، إلا أن دعوة الحريري إلى المقاطعة لم تؤثّر على نسبة التصويت التي شهدت ارتفاعاً. عملياً، وجد المنتفعون مكاناً لأنفسهم في ظل التنافس المالي بين اللوائح، واصطفّ معظم رجال المال والأعمال خلف «الوجوه الجديدة» بعدما كانوا قد أغلقوا الباب خلف الحريري، حتى قبل اعتكافه. كان ذلك واصحاً في الانتخابات البلديّة عام 2016 التي كادت أن تطيح «اللوائح الحريريّة».

 

مالئو الفراغ يتكئون على الحريري وخصومة حزب الله وفتح حنفيات الخدمات

 

خريطة بيروتيّة جديدة

ولأن «البعيد عن العين» بعيد عن التأثير، مهما كان موقعه في القلب، غيّرت نتائج الانتخابات النيابية في الخريطة البيروتيّة وأفرزت توازنات جديدة. «الأحادية السنيّة» في العاصمة اضمحلّت، من دون أن يجد «غير الحريريين» حصاناً بيروتياً يأكل الأخضر واليابس. توزّعت موازين القوى الجديدة بين شخصيّات وجمعيّات، وفُتحت «شهيّة» بيروتيين كثر للعمل السياسي و«الاجتماعي». صناديق الاقتراع «فرّخت» سياسيين جُدداً من دون «مايسترو»، وخصوصاً مع ضياع دار الفتوى في الخلاف بين الحريري والسعوديّة وإخفاق ابن عائشة بكّار مفتي الجمهوريّة الشيخ عبد اللطيف دريان في «كمش» أحياء المدينة. الإخفاق نفسه انسحب على اتحاد العائلات البيروتية الذي يتخبّط في نزاعاته ربطاً بخلاف الحريري والسعوديّة، من دون أن ينجح في تكوين «شخصيّة مستقلّة».

 

شخصيات جديدة

في ظل الفراغ الحريري، يحاول كثيرون ملء الشغور. بعضهم بالاتّكاء على الإرث الحريري نفسه، وبعضهم الآخر على اللعب على وتر خصومة حزب الله. نبيل بدر ليس طارئاً على بيروت. شخصيّة سياسيّة غير مستفزّة ولا يمكن لحزب الله وضعه «في الجيب»، ما يُريح أبناء العاصمة الذين تتدفّق عليهم مساعدات رئيس نادي الأنصار، إضافة إلى محاولته مساعدة بعض المؤسسات كدار الأيتام.

 

خلافاً لبدر، يجهد وضاح الصّادق إعلامياً و«يقطف» شعبية بين من يكنّون عداء لحزب الله. وهو يعرف كيف يكون قريباً من الشارع: مكتبه مفتوح، ورقم هاتفه يوزّع لمن يشاء، ومساعداته أيضاً. فيما يأخذ كثيرون عليه أنّه «ينام على يد» حزبَي الكتائب والقوات ما يخلق له كثيراً من الحساسيّات. صحيح أنّه لا يمكن المقارنة بين ثروة النائب فؤاد مخزومي وأحمد هاشميّة، إلا أنّ الأخير يعرف تماماً كيفيّة تسخير أمواله في المشاريع. جمعيّتا «إمكان» و«بيروت للتنمية الاجتماعية» يتردد أنّ موازنتهما السنويّة تتعدّى 600 ألف دولار، وتعملان كـ«الجرافات» في العاصمة. لم يتّكل الرجل على ثروته، وإنّما نسج علاقات مع جمعيات المجتمع المدني ونجح في «جذب» أموالها إلى مشاريعه. وفاؤه للحريري يعني الكثير لأبناء بيروت الذين يتعصّبون له، وخصوصاً مع محاولته تقديم «الغطاء الأمني» لكثيرين من «قبضايات الشوارع». وعليه، صارت لهاشميّة الحيثيّة التي تُعدّ الأقوى، فيما ضياعه في الوصول إلى «هويّته السياسية» يُضعفه، ومعادلة إمساك العصا من الوسط لا يمكن ان تستمر طويلاً، فلا هو قادر على فتح الأبواب السعوديّة مع تقرّبه إلى الحريري، ولا هو قادر على ترك رئيسه الذي تفوّق عليه.

الأمر نفسه ينسحب على الوزير السابق محمّد شقير، الذي أرجأ حفل إعلان حزبه الجديد حتى لا يتضارب موعده مع موعد وصول الحريري إلى بيروت ويسيء الأخير فهمه. يشير البعض إلى أنّ قواه تكاد تكون خائرة في المرحلة الأخيرة، ربطاً بموقف السفارة السعودية الذي لم يُحمّسه على «اختراق الساحة» بعدما فهم عكس ذلك سابقاً. لذلك، تقلّصت المساعدات التي كانت تتدفق إلى «البيارتة» عبر جمعيّته «بيروت للخير» من أدوية ومساعداتٍ اجتماعية ومدرسيّة، خلال الأسابيع الماضية. فيما يردّد أنه يُعيد بناء مجموعته اللصيقة التي سيخوض بها معاركه السياسية المقبلة. رغم ذلك، لا يزال شقير مستمراً في عمله السياسي ولقاءاته الدوريّة مع شخصيات بيروتية فاعلة على الأرض.

 

هذا أيضاً ما يفعله وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام. هو لا «يسخى» على المساعدات الاجتماعيّة، لكنّه «يتكارم» خلال لقاءاته مع بعض الشخصيات البيروتيّة. هو يجهد لاستقطاب بعض الفاعليات، ونجح فعلاً في «لمّ» بعض المقربين من الرئيس فؤاد السنيورة، ولكنّ كثيرين لا يعوّلون على أي دور له كوْنه بعيداً عن الشارع.

 

عودة العز إلى المقاصد

تسير جمعيّة الإرشاد والإصلاح كـ«السلحفاة» وسط «عمالقة» المال والسياسة. «الزخم القطري» وحده لا يُمكّنها من تغطية الحاجات البيروتية، وإنّ كان ما يُميّزها عن غيرها من الجمعيّات هو تنظيمها الحديدي وعملها السابق في السياسة وحملات المساعدات الاجتماعيّة التي لم تتوقف يوماً. فيما نجحت في «فك ارتباطها» مع تيار المستقبل خلال الانتخابات النيابيّة الأخيرة، ملتصقةً بمن يشبهها إيديولوجياً: الجماعة الإسلامية.

من جهتها، نجحت جمعيّة المقاصد في إثبات نفسها. وجود رجل الأعمال فيصل سنو على رأسها غيّر المعادلة، لتبدأ التعويض عن «كسرها» المالي. ليس المال وحده ما يُضيفه سنو إلى «المقاصد»، بل يمتلك علاقات عربيّة ودوليّة متشعّبة مكّنته من الحصول على دعمٍ مالي دوري من السعوديّة. ما يُريده سنو فعلياً بعد عملية «تنظيف» بيته الدّاخلي هو الانتقال إلى السياسة والمشاركة في صناعة القرار. هذا ما يبدو واضحاً من تنظيم «المقاصد» للقاءات سياسيّة شهرياً، آخرها فتح منبر «المقاصد الثقافي» لمحاضرة ألقاها الأسبوع الماضي السفير نواف سلام.

 

«المقاصد» تتحوّل رويداً رويداً إلى صالون سياسي «يُغطي» على الصالونات السياسية البيروتيّة التي يقيمها البعض كالرئيس فؤاد السنيورة ورئيس تحرير جريدة «اللواء» صلاح سلام.

وتُحاول جمعيّة «بادر» أن تشق طريقها بعد أكثر من سنة ونصف سنة على تأسيسها في زحمة «أخطبوطات» المال. وهي تتّكل على اشتراكات أعضائها المغتربين لسدّ حاجات البيارتة من خدمات ومساعدات وإقامة النشاطات الثقافية والفنيّة والرياضيّة. بعض مؤسسيها من الشباب المغمورين في عالم السياسة، فيما آخرون من الجيل المخضرم الذي كان ينتمي سابقاً إلى 8 آذار و14 آذار، إلا أنّها تُحاول أن تجمع التناقضات في ظلّ الأوضاع الحالية، مع انفتاحها على كل القوى، وتتحضّر للمشاركة في الاستحقاقات كالانتخابات البلدية والنيابيّة. كما تجهد إلى أن لا تكون جزءاً من المحاور مع امتلاكها رؤيتها اللبنانية والعربيّة، و«تتمنى على الدول العربية أن تُساعد الشعب السوري حتى تعود سوريا إلى الحضن العربي بمعزل عن الخلاف مع النظام، تماماً كرهانهنا على علاقات مميزّة بين السعودية ولبنان»، وفق ما يردد كوادرها الذين تتلقى جمعيتهم مساعداتٍ مباشرة من «مؤسسة الملك سلمان للإغاثة».