IMLebanon

مطلوب «سوبرمان» للدبلوماسية اللبنانية

 

 

من المنتظر أن يعلن قريباً عن تشكيلة الحكومة اللبنانية العتيدة بعد مخاض استمر أكثر من شهرين، والآمال معقودة عليها لإنقاذ البلاد من الوضع الاستثنائي الذي تمر به. فالخطر الذي تواجهه هو خطر وجودي تتداخل فيه أزمات عدة، من أزمة الحكم والنظام إلى الأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية إلى التجاذبات الداخلية بين مختلف القوى السياسية إلى الوضع الإقليمي المتأزم وتداعياته على الداخل اللبناني، وصولاً إلى الحراك الشعبي الذي لم تعد تفصل بينه وبين الفوضى العارمة سوى شعرة معاوية.

المعلومات المتوافرة حول التشكيلة الحكومية المفترضة تؤكد من دون أي لبس أنها حكومة أقنعة يتولى فيها الحقائب الوزارية وكلاء نيابة عن الأصلاء، في صورة مضحكة مبكية تثبت مواصلة السلطة استخدام منظومة المحاصصة التقليدية نفسها، كما استمرارها في لعبة التذاكي على المجتمع المحلي والدولي التي باتت مكشوفة للجميع إلا للساحر، الذي لا يزال يؤمن بقدرته الخارقة على الالتفاف والاستخفاف بعقول الناس.

إذا قُدّر لهذه الحكومة أن تُولد، سيكون لونها السياسي الواحد فاقعاً لدرجة استحالة إخفائه على أحد، حكومة تنطق بلغة محور إيران – سوريا دون مواربة. فكيف لهكذا حكومة أن تكون مستقلة أولاً كما يطالب الحراك الشعبي، وإنقاذية ثانياً عندما تلبس ثوب الطرف الذي يرفع راية المواجهة المفتوحة مع العالمين العربي والغربي؟ وكيف لها أن تنجح مع إعلان أمين عام «حزب الله» أن معركة الحزب المقبلة، كما معركة المحور الذي ينتمي إليه، هي اقتلاع الوجود الأميركي من المنطقة؟ وكيف لها أن تنجح في ظل الانعكاسات السلبية لإمساك «حزب الله» بزمام القرار السياسي على علاقاته مع دول الخليج وعلى رأسهم السعودية؟

في الواقع، إذا وضعنا جانباً المشكلات الداخلية في لبنان على فداحتها، فإننا نرى أن ما تواجهه البلاد إقليمياً ودولياً وما سيترتب على الحكومة الجديدة معالجته هو أكثر فداحة.

إقليمياً، أول امتحان أمام الحكومة هو إدارتها لملف العلاقات اللبنانية السورية، وسوريا لم تخرج بعد من حربها المدمرة وآخر مشاهدها ما يجري راهناً في إدلب. كيف ستتعامل مع النظام السوري الذي فقد هيبته وهو المعلق بين سندان روسيا ومطرقة إيران، وخسر شرعيته الداخلية (مع التحفظ) بعد كل الممارسات الوحشية التي ارتكبها ولا يزال بحق شعبه، كما شرعيته الخارجية أكانت بين الأشقاء العرب أم الدول الغربية أم المجتمع الدولي برمّته؟ ما السياسة التي ستعتمدها الحكومة إزاء سوريا مع استمرار وجود «حزب الله» العسكري فيها، وإن خرج، سيبقى وقوفه إلى جانب نظام قمعي نقطة سوداء في وجدان الشعب السوري وقتاً طويلاً؟ كيف ستتعامل مع مشكلة فتح «حزب الله» الحدود بين البلدين مع ما لهذا الأمر من تداعيات أمنية وسياسية واقتصادية؟ وكيف سيكون موقفها من أزمة النازحين السوريين مع إصرار النظام على رفض عودتهم إلا وفق شروطه ما يضع لبنان حكماً بمواجهة مع المجتمع الدولي الذي يصر على عودتهم الطوعية والآمنة؟

كل هذه الأسئلة يمكن اختصارها بسؤال واحد: هل ستطبّع الحكومة الجديدة علاقاتها مع النظام السوري؟ الجواب الأكثر رجحاناً أنها ستفعل. فمشاركة الأطراف اللبنانية المناهضة لنظام الأسد في الحكومة السابقة لم تمنع الحزب وحلفاءه من العزف على وتر تطبيع العلاقات مع هذا النظام ولم تمنع وزير خارجيتها من الخروج عن الإجماع العربي بطرد سوريا من جامعة الدول العربية، فما الذي سيمنعهم اليوم والحكومة كلها لهم وأجندة راعيها تتخطى حدود الوطن ومصالحه؟

الامتحان الثاني هو إدارة الحكومة الجديدة لملف العلاقات مع دول الخليج العربية وعلى رأسها السعودية. لا حاجة لنا إلى تأكيد أهمية العلاقات اللبنانية الخليجية إنْ لجهة حجم اللبنانيين العاملين في دول الخليج أو لجهة ما قدمته على مر الزمان من مساعدات للبنان ووقوفها إلى جانبه في أزماته. ولا حاجة لنا إلى التذكير أيضاً بأن توتر العلاقات الخليجية اللبنانية سببه الرئيس «حزب الله» وتماهي لبنان الرسمي مع مواقفه. ولا نستطيع في هذا الإطار إلا إدخال موقف لبنان غير الودي من دول خليج في إطار النزاع الإيراني السعودي ونجاح «حزب الله» في جذب البلاد إلى فلك نظام الملالي. فما الذي سيتغير مع الحكومة الجديدة؟

الامتحان الثالث هي العلاقات مع العراق والموقف من التطورات التي يشهدها مع تحوله علناً إلى ساحة حرب مباشرة بين إيران وأميركا في ظل حراك شعبي عارم مناهض للتدخل الإيراني في شؤون البلاد. إن السيطرة على العراق تعد مكسباً استراتيجياً لسياسة إيران التوسعية في المنطقة إنْ لجهة زعزعة استقرار الدول الخليجية أو لجهة اعتباره خط إمداد أساسياً لقواتها الموجودة في سوريا كما لـ«حزب الله» في لبنان، إضافة إلى ما يوفره لها من سبل للالتفاف على العقوبات الأميركية. أكثر ما يخيف إيران راهناً هو الحراك الشعبي العراقي الرافض لسيطرتها عبر الطبقة السياسية والفصائل المسلحة التابعة لها على مفاصل الدولة. ما يعنينا في لبنان هو انخراط «حزب الله» مجدداً في قمع شعب عربي، مع ارتباط اسم المسؤول في «حزب الله» محمد كوثراني بجهود طهران وميليشياتها في إخماد الانتفاضة العراقية. فهل بيئة «حزب الله» مستعدة لدفع ثمن جديد، وأي موقف ستتخذه الحكومة الجديدة في حال صح ذلك، وبأي فذلكة ستطالعنا لتضيفها إلى فذلكة «النأي بالنفس»؟

دولياً، ينتظر الحكومة الجديدة ارتفاع منسوب توتر العلاقات مع أميركا والدول الغربية بالتوازي مع ارتفاع توترها مع إيران. كيف ستتعامل مع إعلان الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله الحرب على الوجود الأميركي في المنطقة؟ كيف ستتعامل مع تصنيف بريطانيا «حزب الله» بكل أجنحته كجماعة إرهابية واقتراح البرلمان الألماني حظر جميع أنشطته في البلاد، وتفعيل بريطانيا وفرنسا وألمانيا لآلية تسوية النزاعات في الاتفاق النووي متموضعة في الخط الأميركي تجاه إيران؟ تبقى ملفات أخرى كثيرة مثل سلاح «حزب الله» وقرار السلم والحرب وحقوق لبنان في صراعات النفط والغاز في المنطقة.

كل الأسئلة التي طرحناها تدخل في إطار السياسة الخارجية للبلاد، لكن الإجابة عنها حاسمة لجهة حل مشكلاتها الداخلية وعلى رأسها المعضلة الاقتصادية والمالية، إذ لا يمكن للبنان الخروج منها وهو يعادي جميع الأطراف الإقليميين والدوليين القادرين على مساعدته. في ظل سيطرة «حزب الله» على القرارين الداخلي والخارجي، هل ستتمتع الدبلوماسية اللبنانية الجديدة بالجرأة الكافية لإخراج لبنان من سياسة المحاور وصياغة دبلوماسية تعيده إلى حياده الإيجابي التاريخي بعيداً عن مهزلة «النأي بالنفس»؟ وهل ستُسقط النهج المستفز المتّبع الذي قطع لبنان عن تقليده العريق المعتمد على التوازن؟ هل سيتمكن رئيسها من حماية لبنان من العزل الدولي في مرحلة ما بعد مقتل قاسم سليماني واشتداد الأزمة الدولية مع إيران؟ هل سيعود إلى ما خطه كبار تسلموا الدبلوماسية قبل أن يضربها الانحطاط ليقتدي بخير الدين الأحدب وسليم تقلا وحميد فرنجية ويوسف سالم وفيليب تقلا وخليل أبو حمد وفؤاد بطرس وفؤاد عمون وغسان تويني؟

أعان الله الشخصية التي ستتولى وزارة الخارجية في الحكومة العتيدة، فالمطلوب منه قدرات خارقة تجعله أقرب إلى «سوبرمان» منه إلى بني البشر!