الأحزاب اللبنانية عريقة وتحمل تراثًا متراكمًا في الدفاع عن الحريات
ورد خلال إطلاق “حركة الاستقلال الثالث” في متحف سرسق سنة 2024، في مداخلة الدكتور فيليب سالم: “ضرورة التغيير في الذهنية السياسية”. يعني ذلك المقاربة الفكرية العلمية للمؤسسات الدستورية ولسلوكيات لبنانية في حياتنا العامة.
إن التجربة الحزبية اللبنانية التاريخية، المتراكمة منذ إعلان دولة لبنان الكبير في أول أيلول 1920، هي ريادية، لبنانيًا وعربيًا، على الرغم من بعض التشكيك والتعميم، استنادًا إلى دراسات عديدة حول الأحزاب في لبنان، على مستوى عالمي ومقارن. ما الذي نستخلصه في سبيل التصويب والرؤية والعمل المستقبلي؟ أي مدرسة فكرية سياسية لبنانيًا وعربيًا بعد الاختبار والمعاناة؟ إنها المدرسة العقلانية التي تعود جذورها إلى الآباء المؤسسين منذ كاظم الصلح وبيانه الشهير “بين الاتصال والانفصال” سنة 1936، ودستور 1926، وميشال شيحا، وميثاق 1943، وميثاق الطائف 1989… يوجز منطلقات المدرسة العقلانية في البنيان الدستوري اللبناني حسن صعب الذي أسس الجمعية اللبنانية للعلوم السياسية.
1. الاختبار الحزبي التاريخي لبنانيًا: إن الأحزاب اللبنانية عريقة وتحمل تراثًا متراكمًا لبنانيًا وعربيًا في الدفاع عن الحريات والاستقلال والمقاومة الوطنية ونشر القيم الديمقراطية:
Kay Lawson (ed.), Political Parties and Democracy, Praeger, 5 vol., 2010, and
vol. 5: The Arab World, Saad Eddin Ibrahim and Kay Lawson, and Antoine Messarra, “The Lebanese Partisan Experience and Its Impact on Democracy”,
pp. 27-46.
والنص الأصلي باللغة العربية: أنطوان مسرّه، “التجربة الحزبية اللبنانية في إطارها العربي”، 2007، 20 ص، 208/06c.
Michael Suleiman, Political Parties in Lebanon (The Challenge of Fragmented Political Culture), Ithaca, New York, Cornel University Press, 1976, 326 p.
أنطوان مسرّه (إشراف)، الأحزاب والقوى السياسية في لبنان (التزام واستراتيجية سلام وديمقراطية للمستقبل)، المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، بالتعاون مع مؤسسة كونراد اديناور KAS، جزءان رقم 6 و 8، المكتبة الشرقية، 1996-1997.
إن الأحزاب الموصوفة “بالتقليدية” أو “الطبقة السياسية” ليست إطلاقًا مصدر الكوارث في لبنان. الأحزاب الموصوفة “بالتقليدية”: الكتائب، الحزب التقدمي الاشتراكي، حركة أمل، الوطنيون الأحرار، الحريرية وبيت الوسط (النابع من الثوابت الإسلامية)، والقوات اللبنانية النابعة من حزب الكتائب أساسًا… لها شهداؤها دفاعًا عن الاستقلال والحريات. إن اتهام الأحزاب “التقليدية” “والطبقة السياسية” والتعميم هو مؤشر لنكران جميل لبنانيين تجاه شهداء لبنان. هل يستحق اللبنانيون في ثقافتهم السياسية شهداءهم؟
يكمن منبع الكوارث في لبنان من تنظيمات طارئة على الكيان اللبناني وغريبة تمامًا عن تراثه المتراكم. تنبع كوارث لبنان من اثنين أو ثلاثة بيوتات سياسية مارست وتمارس الدعارة في العلاقات الدبلوماسية منذ اتفاقية القاهرة سنة 1969 التي تم إلغاؤها في المجلس النيابي ثم اتفاقية القاهرة المتجددة في 6/2/2006. الأحزاب اللبنانية الموصوفة بالتقليدية هي أحزاب استقلالية. لها مساوئها وانحرافاتها، كما في كل عمل سياسي:
Roberto Michels, Les partis politiques (Essai sur les tendances oligarchiques des démocraties), Flammarion, 1914.
إن الأحزاب اللبنانية التي تحمل تراثًا عريقًا في الدفاع عن الاستقلال والحريات وعروبة لبنان تدرك حدودها وحدود لبنان دستوريًا وسياسيًا وتدرك توازنات لبنان ودوره في المنطقة والعالم!
2. ما معنى حزب سياسي؟ إن غياب ثقافة الدولة في لبنان هو الذي يحمل البعض على دراسة قوة سياسية تحوّلت إلى دولة رديفة تطغى على الدولة الرسمية. إنّ أي قوة سياسية لها جيشها ودبلوماسيتها لم تعد حزبًا سياسيًا! يمكن لحزب سياسي أن يستلم الحكم مباشرة ويخضع للمساءلة والمحاسبة. أمّا الدولة الرديفة في جيشها ودبلوماسيتها الخاصة وإعلانها الحرب والسلم فلم تعد حزبًا سياسيًا ولا تُدرس في سياق الحزبية اللبنانية بل كواقع تقسيمي في دولتين يتطلّب المعالجة. يندرج ذلك في دراسة أنتروبولوجيا الدولة في التاريخ والقانون ومثاقفة الدولة في الثقافة السياسية اللبنانية. إن الحزب الذي قد ينشأ كحزب، ثم يتحوّل إلى دولة رديفة مع جيش نظامي ودبلوماسية خاصة، هو في علم السياسة والقانون حركة انفصالية لا تعلن عن ذاتها انفصالية بسبب الاستحالة الواقعية في الانفصال.
عندما اضطرت بعض قيادات حزبية لبنانية موصوفة “بالتقليدية” و “بالطبقة السياسية”، إلى التواصل أو التعاون مع سلطة احتلال مباشر أو بالوكالة ولكنّها عبّرت عن استقلاليتها اللبنانية أدى ذلك إلى تصفيتها! نعني كمال جنبلاط بعد الاجتماع الصاخب مع حافظ الأسد، والإمام موسى الصدر ولبنانيته العريقة، وبشير الجميل بعد اجتماع مع الاحتلال الإسرائيلي، ورفيق الحريري بعد اجتماع مهين مع بشار الأسد … أما في الحالة الراهنة في دولتين في لبنان وكارثة 2024 يستمرّ صمت مدوّ وتواطؤ من قبل جهات لم تعدّ حزبية – في مفهوم الحزب – بل انفصالية عن لبنان الدولة والكيان والتراث والخبرة التاريخية المتراكمة.
3. ما هي شروط التغيير والنهوض في الأحزاب اللبنانية؟ نبحث هنا في الأحزاب اللبنانية التي تتصف بصفة الأحزاب وليس قوة سياسية أنشئت ووصفت نفسها كحزب وتحوّلت إلى دولة رديفة وجيش رديف ودبلوماسية رديفة.
أ. الحاجة إلى تضامن الأحزاب والقوى الموصوفة “بالتقليدية” في سبيل الاستقلال الثالث واستعادة لبنان الدولة نقيضًا لممارسات التموضع والتذاكي والتكاذب والشطارة والمعليشية اللبنانية… إنها الأحزاب اللبنانية الأصيلة: الكتائب، الأحرار، التقدمي الاشتراكي، المستقبل، أمل…
ب. تجنب التسلّط الحزبي partitocratie بفضل استعادة التوازن مع النقابات والتنظيمات المهنية اللبنانية التي تتمتع بتاريخ عريق لبنانيًا. ثم استتباع القوى النقابية والمهنية وضرب استقلاليتها من قوى الاحتلال المباشر أو بالوكالة منذ 1980 على الأقل:
أنطوان مسرّه، (إشراف)، النقابات والهيئات المهنية في لبنان: استراتيجية مشاركة وديمقراطية اجتماعية، المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، بالتعاون مع مؤسسة كونراد أديناور KAS، المكتبة الشرقية، جزءان، رقم 12 و 15، 1999-2000.
ج. الحاجة إلى معالجة سلبيات قوانين انتخابية نقلت لبنان من تحالفات عابرة للطوائف alliances إلى كتل نيابية blocs.
د. واجب الأحزاب اللبنانية التي تتمتع بتراث عريق لبنانيًا وفي الالتزام الحزبي المستنير وعروبة لبنان العمل على تعميم ثقافة سياسية متجدّدة وثقافة الدولة.
يقول كمال جنبلاط في محاضرة في الندوة اللبنانية في 10/12/1956: “لبنان وجد لكي يكون بلد العقل، بلد العقلانية – أثينا هذه البقعة من الشرق. ولنترك لسوانا أن يتلهى أو يجازف بلعب دور أسبارطة Sparte فهو ليس دورنا في الواقع، إن نفوسنا تعبت – عبر التاريخ – من تشخيص أدوار الأباطرة أو من تقليد دون كيشوت Don Quichotte…” ونذكر قول الإمام موسى الصدر في كلمة في القاهرة سنة 1978: “سلام لبنان هو أفضل وجوه الحرب مع إسرائيل…” (مسيرة الإمام موسى الصدر، بيروت، دار بلال، 2000، 12 جزء، جزء 7،ص 98).
ويقول موسى الصدر في 30/7/1978: “لا حل في لبنان إلا بإقامة الشرعية، ولا شرعية إلا بتذويب الدويلات أيًا كانت صيغتها وشكلها وفعلها”.