وفي المرحلة الثالثة من الانتخابات خرجت العاصمة منتصرة وخرجت بيروت موحّدة، وعادت ست الدنيا لتحتضن أبنائها كل أبنائها، وبالرغم من كل أصوات النشاذ وما أكثرها وبالرغم من تعدّد اللوائح عادت بيروت لتمثل كل النسيج الوطني وتَمَثل المسيحيون كما المسلمون مناصفة في مجلس بلديتها، واختفى بين ليلة وضحاها منطق العدّ وأرجحية العدد. فبيروت المدينة المفتوحة عبر التاريخ بيروت أم الشرائع عادت والحمد للّه لتلعب دورها الجامع والموحّد ليس فقط لأبنائها بل ولكل اللبنانيين. فبيروت التي استقبلت الجميع ورحّبت بكل شعوب الأرض ومضطهديه القادمين من أربع زوايا الدنياء، فاستقبلت السياسيين والأدباء والشعراء والمفكرين الذين قصدوها هرباً من فاتح أو مستبد أو ظالم، فالمدينة التي لا تنام لم تسأل يوماً عن هوية هذا أو ذاك أو عن دين هذا أو ذاك، يكفي التطلّع إلى أحيائها والأزقة التي سكنتها كل المجتمعات، والتي يكفيها فخراً أنها كانت مقر المدرسة الوطنية التي أسّسها أبا التنوير المعلم بطرس البستاني في منطقة زقاق البلاط، المدرسة التي سبقت بوطنيتها ولا طائفيتها كل مدارس وجامعات الإرساليات الأجنبية من فرنسية وأميركية وألمانية وغيرها. نعم عادت بيروت وعسى أن يرجع معها الزمن الجميل فلبيروت ألف تحية وتحية ولكل من ساهم في تكريس وحدتها وتنوّعها ألف تحية وسلام.
السياسيون انتصروا للوطن
لقد شكّل إجماع كل الساسة اللبنانيين على لائحة واحدة موحّدة ضمّت الجميع علامة فارقة في يوميات السياسة اللبنانية، فأهل السياسة لم يجتمعوا مرة على الخير أو على الشر لا فرق إلّا بوجود راعٍ إقليمي أو دولي، وهم وكما في كل استحقاق كانوا بحاجة إلى من يمسك بيدهم ليدلهم على سلوك هذا الطريق أو ذاك. ومنذ فترة وجيزة لم يكن بالإمكان انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتسمية رئيس لمجلس الوزراء إلّا بمساعدة الدول الخمس التي ترعى شؤون لبنان وكأن لبنان كان واقعاً فعلاً لا قولاً تحت الوصاية الدولية، وكأن كل الساسة اللبنانيين كانوا جماعة من القصر لا يملكون حرية الخيار ولا فرص الاختيار. فما عدا ما بدا وكيف أصبح الجميع وبسحر ساحر مدركين لمصلحة بلدهم؟ وكيف استطاع هؤلاء المتخاصمين المتقاتلين على ألف سبب وسبب، لقد اختلفوا على كل شيء وحتى أن جنس الملائكة لم ينجُ من خلافاتهم، كيف استطاع هؤلاء من الاتفاق على مبدأ «إنقاذ بيروت»؟ بالأمس القريب كانوا يتراشقون بالتهم حول مسؤولية هذا الفريق أو ذاك عن دمار العاصمة بل دمار البلد برمّته، ولم تكن قصة السلاح وحصرية السلاح بيد الدولة إلّا بنداً من بنود خلافاتهم، فهم مختلفون ومتخاصمون على كل شيء، من قانون الانتخاب إلى اللامركزية إلى إلغاء الطائفية إلى حياد لبنان، حتى أنهم اختلفوا على الإصلاح وكيفية إعادة هيكلة المصارف وعلى كل ما له من علاقة لبنان مع الخارج وحتى مع محيطه. وفجأة حلّت المعجزة واتفقوا على بيروت ولما لا «بيروت بتجمعنا» وهي فعلاً قد جمعتنا، ويقول البعض أن الروح القدس الذي حلّ على مجمع الكرادلة «conclave» والذي مكّن الكرادلة من انتخاب البابا ليون الرابع عشر في وقت قياسي، هو نفسه الذي حلّ على السياسيين ومكّنهم من إنقاذ بيروت وصورة بيروت في الربع ساعة الأخير.
حلول داخلية بانتظار الحلول الإقليمية
قد يتهيّأ للمراقب العادي أنه لا مجال لاستنباط الحلول لكل المشاكل التي يتخبط فيها البلد، وهذا وبجزء منه صحيح، كون كل مشاكل الوطن مرتبطة بالخارج وهي مرتبطة بقضايا لا يمكن حلّها لأن من بيده الحل والربط موجود خارج الحدود، من أزمات الحدود الجنوبية والشرقية إلى الأزمة الاقتصادية إلى موضوع الحل والسلم وغيرها وغيرها. ولكننا أيضاً نملك كلبنانيين الحل لأكثر من معضلة ومشكلة ولكن وقبل الدخول في منطق الحلول علينا أن ندرك أولاً أننا قادرون وثانياً أننا نملك رؤية موحّدة للحل، فلا نختلف كلبنانيين على الحل ومن ثم نضع اللوم على الخارج، إذ إنه ومما لا شك فيه أن الخارج وأياً يكن هذا الخارج لا يريد الحل لأزماتنا وذلك مهما صفت نواياه، وهنا لا بد من وضع الحلول الداخلية وذلك أياً يكن نظرة الخارج إلينا، فتبقى وحدتنا هي الأساس ومن ثم يمكن بعدها إجبار الخارج أو إقناعه لا فرق بصوابية هذه الحلول. وعل سبيل المثال لا الحصر إن الاتفاق على حصرية السلاح لا يمكن ربطه بالموانع الخارجية حتى ولو كان البعض ينتظر إتمام الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، كذلك فإن رفض التوطين واستمرارية وجود النازحين يشكّل نقطة تلاقٍ بين كل اللبنانيين ويجب أن تكون حافزاً لكل السياسيين للمضي قدماً بها وبشكل جديّ لا يحمل التأويل أو التسويف، وكذلك موضوع التنقيب واستخراج النفط والغاز يجب أن يشكّل البند الأساس في مفاوضات لبنان مع البنك الدولي. إنه غيض من فيض فعسى أن يشكّل اتفاق السياسيين على إنقاذ بيروت حافزاً لإنقاذ الوطن.