IMLebanon

إلغاء المجلس الأعلى… منعطف تاريخيّ حتميّ

 

 

 

في خطوة سياسيّة تحمل دلالات تاريخية، أعلنت دمشق تعليق عمل “المجلس الأعلى اللبناني– السوري” وحصر التواصل بين البلدين عبر القنوات الدبلوماسية الرسميّة. هذه الخطوة، التي تزامنت مع زيارة وزير الخارجية السوري إلى بيروت، لا يمكن قراءتها إلّا كإشارة واضحة إلى رغبة السلطة السورية الجديدة في رسم مسافة رمزية مع أدوات الهيمنة القديمة التي شكّلت لعقود أساس العلاقة بين النظامين منذ توقيع معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق عام 1991، والتي كانت عمليًا الغطاء القانوني لترسيخ الاحتلال السوري في لبنان.

 

فالمعاهدة التي أُبرمت في ظلّ وجود عسكري سوري شامل على الأراضي اللبنانية أنشأت “المجلس الأعلى اللبناني-السوري” ليكون الإطار الناظم للعلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية بين البلدين. غير أن مضمونها العملي وضع لبنان في موقع التابع لا الشريك، إذ جعل قرارات المجلس “إلزامية ونافذة ضمن النظم الدستورية”، فباتت دمشق تمسك بالمؤسسات اللبنانية من الرئاسة إلى البرلمان مرورًا بالحكومة والأجهزة الأمنية. ومن خلال هذا المجلس، وما تفرّع عنه من اتفاقيات، جرى تثبيت النفوذ السوري في تفاصيل الحياة السياسية والإدارية اللبنانية، حتى صار القرار الوطني رهينة موافقة غير معلنة من النظام السوري.

 

بعد انسحاب القوات السورية عام 2005، تجمّد المجلس فعليًا دون أن يُلغى قانونيًا، فبقي كرمزٍ لاستمرار منظومة النفوذ السابقة. وقد رأى كثيرون أن المعاهدة نفسها وُقعت تحت الضغط، ما يجعلها من منظور القانون الدولي عرضة للطعن وفق اتفاقية فيينا التي تعتبر باطلة أي معاهدة أُبرمت تحت التهديد أو استخدام القوّة. من هنا، تبرز أهمية خطوة تعليق عمل المجلس، التي لا يمكن اعتبارها مجرّد إجراء إداري، بل هي مؤشر سياسي واضح على رغبة دمشق في إعادة صياغة العلاقة مع لبنان ضمن أسس جديدة، ولو رمزيًا في هذه المرحلة.

 

صحيح أن التعليق لا يساوي الإلغاء من الناحية القانونية، إذ إن إلغاء المعاهدات يحتاج إلى مسار تشريعي في البلدين، غير أن القرار اكتسب بعدًا سياسيًا لافتًا مع إبلاغه رسميًا للجانب اللبناني، وتأكيد أن المراسلات المقبلة ستتمّ عبر القنوات الدبلوماسية فقط. وقد رحّبت الرئاسة اللبنانية بالخطوة واعتبرتها فرصة لإعادة تصحيح المسار، رغم أن المعاهدة وسلسلة الاتفاقيات المنبثقة عنها لا تزال قائمة قانونيًا.

 

بهذا المعنى، يمثل تعليق المجلس إعلان وفاة متأخرة لمؤسّسة جسّدت لعقود جوهر الاحتلال السوري للبنان، وبداية تراجعٍ رسمي لآخر رموز مرحلة الاحتلال. وهو في الوقت نفسه، فرصة أمام الدولة اللبنانية لتثبيت قواعد علاقة طبيعية مع سوريا، قائمة على مبدأ الندية والاحترام المتبادل.

 

وتزداد رمزية هذا التطوّر حين نلحظ أن الوزير السوري امتنع خلال زيارته عن لقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري، المعروف تاريخيًا بقربه من النظام السوري. هذا الامتناع لم يكن مجرّد تفصيل بروتوكولي، بل رسالة سياسية مزدوجة المعنى: أولًا، رغبة سورية في تجاوز رموز مرحلة الوصاية التي حكمت لبنان طيلة ثلاثة عقود، وثانيًا، إقرار غير مباشر بأن العلاقات بين البلدين يجب أن تمرّ اليوم عبر المؤسّسات الرسمية لا عبر الوسطاء التقليديين.

 

لا يمكن الاستهانة بالبعد السياسي للقرار وللزيارة، خصوصًا أنه جاء في سياق إقليمي متحوّل، ومع سلطة سورية تسعى إلى إعادة الانفتاح عربيًا ودوليًا. فتعليق العمل بالمجلس هو بمثابة إعلان وفاة متأخرة لمؤسّسة كانت تمثل العصب الإداري للهيمنة السورية على لبنان، ورمزًا للعلاقة غير المتكافئة التي حكمت البلدين لعقود. المطلوب اليوم من لبنان ألّا يتعامل مع الخطوة بوصفها تنازلًا سوريًا فحسب، بل كفرصة لبناء علاقة نديّة حقيقية. على الدولة اللبنانية أن تستثمر هذا التطوّر لتثبيت مبدأ التعامل عبر القنوات الدبلوماسية وحدها، وللمطالبة بإلغاء معاهدة الأخوّة والتنسيق والانطلاق بالعمل للقضاء على كلّ ما تبقى من مخلفات النظام السوري البائد.